أما وقد حطّت «حروب» الإنتخابات النيابية أوزارها، على نتائج واضحة بانتصار الفريق اللبناني الرافض للسلاح، وسط المآسي والنكبات التي يعيشها اللبنانيون، في الشحّ الإقتصادي والإنهيار المالي والتهجير القسري، في غياب المقومات الأساسية للحياة: ماء، كهرباء، رغيف…، بحثاً عن جواز سفر يُثبِت هويتهم، يمكِّنهم من استجداء تأشيرة «خروج» من لبنان، إلى أية أرض مأهولة؛ أو ركوب أول زورق موت، والإرتماء على أقرب شاطئ غريب، يحرقون فوقه، «كإنجازٍ تاريخي»، كل مستند أو ورقة قد تفضح هويتهم الوطنية تعيدهم إلى جهنم التي فروا منها. فلقد بات من غير المسموح متابعة «الرغو» بالكلام عن الفساد والمحاصصة ونهب الدولة وانهيار المؤسسات… التي تُعتبر كلها نتائج حتمية لما وصلت إليه الدولة، دون الدخول في مواجهة الأسباب الحقيقية التي أوصلت لبنان واللبنانيين إلى هذه الكارثة.
يُجمع اللبنانيون على الإقرار بأن السبب الحقيقي في المأساة الحالية هو ضعف الدولة وتفككها. والمسؤول عن هذين الضعف والتفكُّك هو السلاح غير الشرعي لـ»حزب الله»، الذي بنى دويلته على قضم الدولة، وفق المعادلة الحتمية: كلما ازدادت الدويلة قوةً ازدادت الدولة تفككاً وانحلالاً. لذا يجب الإقرار بأن أي حلٍّ للأزمة اللبنانية، يجب أن ينطلق من حلِّ قضية سلاح «حزب الله» والإحتلال الإيراني المقنَّع للبنان. من هنا تبدأ مهمة النواب «السياديين» في التركيز على حلّ مسألة هذا السلاح، الذي تعتبره غالبية اللبنانيين واجهة للإحتلال الغريب، كأفضلية مطلقة للبتِّ ببقية الملفات.
قد يعمد البعض إلى تخدير الرأي العام بإعادة طرح البحث في ملهاة اسمها: «الإستراتيجية الدفاعية». لكن إثارة الموضوع من جديد، والذي كان هدفاً مأمولاً قبل عقد ونيف، يُعتبر اليوم تهرباً من إمكانية قيام الدولة الحقيقية. فالإستراتيجية الدفاعية توضع عادةً للبلدان ذات السيادة، وليس لدولة منتهكة السيادة والقرار الحر، من قبل دويلة داخلية تقضم من سيادتها كل يوم. لذلك فكل محاولة بحثٍ في الإستراتيجية الدفاعية قبل التخلي عن الحزب لسلاحه، يبقى ملهاة للتهرب من معالجة المسألة الأساسية، أي السلاح غير الشرعي للحزب، ومحاولة مستجدة لإيجاد مبررات واهية للإحتفاظ بالسلاح ووهجه بأغطية جديدة، واستكمالاً لتدمير الدولة وتهجير اللبنانيين بهدف تغيير هوية لبنان.
خطاب السيد حسن نصرالله بعد صدور نتائج الإنتخابات النيابية في لبنان، كان هادئاً نسبيّاً عما عرفناه عنه سابقاً من تهديد ووعيد بالكلام والإشارات؛ إذ بدا فيه مُقِّرّاً بنتيجة ما اختارته مكوِّنات الشعب اللبناني، التي أجمعت على رفض سلاحه، بعد أن تحقق اللبنانيون من دور هذا السلاح في تدمير الدولة وهدم مؤسساتها المالية والإقتصادية والسياسية…، وأدى إلى تحويلهم إلى متسوّلين على أبواب سفارات المحسنين. لكن بالرغم من الهدوء الظاهري للخطاب، يبدو أن الأمين العام لـ»حزب الله»، لم يتراجع عن التهديد «الناعم» هذه المرة للبنانيين. فالقبضات الحديدية أخفاها مؤخراً بقفازات حريرية عندما طرح مبدأ «العدَّ» من جديد، في إشارةٍ إلى عدد المواطنين الشيعة في لبنان، متجاهلاً في هذا الخطاب حجم المقاطعين من أبناء الشيعة للإنتخابات النيابية، احتجاجاً على الأوضاع الكارثية في لبنان، والتي يعاني منها شيعة لبنان كغيرهم من المواطنين؛ وما يعانون وحدهم من عزلة في الخارج، تنعكس سلباً على أوضاعهم الإقتصادية والأمنية في بلدان الإنتشار، بسبب الصورة النمطية في كثير من بلدان الإغتراب عن «حزب الله الإرهابي» وشبكاته الخارجة عن القانون داخل هذه البلدان، ليصبحوا كمغتربين موضوع رصد ومراقبة أمنية وإقتصادية… ومساءلة دائمة في هذه الدول.
«العدُّ» يا سيد حسن قد يصلُح في البلدان التي تحتضن شعباً متجانساً، أي شعباً يعتنق نفس اللغة والدين والمذهب والعرق والحضارة… لكن «العدّ» لا يمكن تطبيقه في بلد كلبنان؛ لأن اللجوء إلى «العدِّ» عندنا قد يُطيحُ بلبنان باتجاه مشاريع أخرى. وفي هذه الحالة، لا سمح الله، قد يكون «حزب الله» وبيئته أول وأكبر الخاسرين؛ فأوقف لنا التهديد بـ»العد» ليبقى لنا جميعاً هذا الوطن الجميل لبنان.
لكن السيد حسن بعد يومين من خطاب «العدّ»، عاد ليطالب بحكومة وفاق لحلِّ الملفات المستعصية، كما طالب بالتعايش مع سلاحه لمدة عامين قبل أن نبحث في قضية السلاح. وهنا نسأل السيد حسن: أولاً لماذا تطالب بحكومة وفاق وطني، واللبنانيون يعرفون أن حكومات الوفاق كانت لتغطية السلاح والفساد وإنهم لا يريدون العودة إلى هكذا اختبارات من جديد، فاشلة وقاتلة؟ وثانياً لماذا حكمت لوحدك بأغلبيتك لآخر ثلاث سنوات (وهذا حقك الديموقراطي)، بينما تريد حرمان الأغلبية الحالية من ممارسة هذا الحق؟ وأخيراً يطلب السيد حسن منا التعايش مع سلاحه للعامين المقبلين قبل بدء البحث في قضية سلاحه وقد يطول البحث لعقود. وهنا نسأل: هل تريد خلال هذين العامين تفكيك «فخ» الغجر الوهمي، أو تحرير مزارع شبعا؟ أم أنك تريد على إبقاء ورقة السلاح رهينة بيد إيران لمدة عامين إضافيين، قد تطلب بعد هذين العامين تمديدهما، لخدمة مشاريعها الإستراتيجية في المنطقة؟ وماذا يتبقى من لبنان الدولة والكيان بعد هذين العامين إذا وافقنا على هذا الطرح وعلى أي أساس؟
في الخلاصة لا شرعية لدولة بوجود سلاح غير شرعي. فالإستمرار في لاشرعية الدولة يقود إلى تفكُّكِّها وتحلُّلِّها، ليبقى الخاسر الأكبر فيها من تسبب بهذا التحلُّلّ؛ و»العدُّ» وصفة لا تنطبق على الكيان اللبناني؛ والتهديد لا يخيف أحداً في لبنان (نحن وُلِدنا بيتنا الخطر)؛ والمرض القاتل لا يسمح بإعطاء المهل. لذلك فالحلُّ الوحيد للحفاظ على لبنان لجميع أبنائه، يفرض علينا جميعاً التسليم بنتائج الإنتخابات وتطبيق الديموقراطية في تشكيل الحكومات والحكم، لتسترجع الدولة شرعيتها المصادرة من الدولة. وإلاّ فنحن ذاهبون نحو المجهول الأخطر.