Site icon IMLebanon

هل ينفع التمسّك بالأمل والرجاء حتّى نهاية الشرّ؟

 

الحديث بتجرّد وموضوعيّة هو ما ينتظر النّاس سماعه اليوم وكلّ يوم. ولا يمكن التغاضي عن الصراع الذي يحكم راهناً الحضارات. ووسط هذا الصراع يقبع الوجود المسيحي في الشرق عامّة وفي لبنان بوجه خاصّ، بغضّ النّظر عن أنّ البعد الإنسانيّ هو الأهمّ في الفلسفة الوجوديّة اللبنانيّة لنستطيع الارتقاء بمجتمعنا اللبناني من قوقعته الدينيّة لوضعه في الأبعاد الإنسانيّة التي تحكم الوجود الكوزمولوجي في هذا العالم الفاني أساساً.

 

وأمام الانحسار الوجودي الذي يشهده مسيحيّو الشرق، يتميّز هذا الوجود في لبنان بطابع الحريّة التي توأمته وحوّلته إلى حضور فاعل في صلب مؤسّسات الدّولة التي أتت نتيجة للكيان الذي حقّقته المقاومة اللبنانيّة عبر مسار تاريخيّ تجاوز الألف والأربعمئة سنة من النضال بأشكاله المختلفة. ولعلّ ما يشهده لبنان اليوم هو نوع جديد من المواجهة الكيانيّة تفرض بحدّ ذاتها سبلاً مختلفة للتغلّب عليها.

 

من هنا، لا يمكن بعد اليوم مواجهة هذه الحالة المستجدّة بالأساليب والوسائل نفسها. لذلك وجب العمل ليلاً ونهاراً لإيجاد وسائل جديدة، لا تقلّ فعاليّة عن كلّ الوسائل التي تمّ اختبارها عبر مراحل التاريخ كافّة. فالمقاومة المسلّحة حقّ مشروع للحفاظ على الوجود، لكن لا يمكن الاستمرار فيها إلى ما لا نهاية. مع ضرورة الاحتفاظ بحقّ استعمالها متى دعت الحاجة إلى ذلك.

 

بناء عليه، وبعد تجربة هذا النّوع من المواجهة عبر السنين، وجب العمل اليوم على تثبيت نوع جديد يؤمّن ضمانة الاستمرار على استقرار الوجود الحرّ في لبنان والشرق. ولا يمكن مطالبة أيّ شعب بما لا يريده هو نفسه. أيّ أنّ ما لم تقم به الجماعات المسيحيّة في مختلف دول المشرق العربي لا يمكن مطالبتها به لأنّها بالأساس لم تأخذ المبادرة لتقوم به. أعني هنا بالتحديد اتّخاذ المقاومة سبيلاً للحفاظ على الوجود الحرّ.

 

أمّا في لبنان فالوضع مغاير تماماً. فالمقاومة للحفاظ على الوجود الحرّ كانت خيار شعب قرّر المواجهة للبقاء لا المواجهة لتنفيذ مشروع إيديولوجي، قد اعتقد بعضهم في مرحلة ما أنّ هذا المشروع قد يحقّق الاستقرار في استمرار وجود المجموعة الحضاريّة المسيحيّة في بقعة جغرافيّة محدّدة. لكن أثبتت التجارب في الساحة العالميّة أنّ الوجود لم يعد مرتبطاً فقط بالإطار الجغرافي لا سيّما بعد الثورة الرّقميّة التي دكّت السّدود ومحت الحدود.

 

وكلّ الذين لا يزالون خلف الحدود الجغرافيّة، ولا تزال نظرتهم مرتبطة بقوّة العامل الديموغرافي، وما زالوا أيضاً حتّى الساعة يعوّلون على قوّة السلاح أو العنف والإرهاب، باتوا قابعين في غياهب متاحف الحضارات التي باتت بدورها خارج الواقع الذي نعيشه اليوم. من هذا المنطلق باتت مقاومتنا في استمرار المواجهة أوّلاً؛ والوسائل العنفيّة فقط هي لتصويب مسار هذه المقاومة وليست بحدّ ذاتها الوسيلة المفروض استخدامها بشكل دائم.

 

من هذه النّاحية بالذات يجب فهم ضرورة التنازل عن أيّ قوّة مسلّحة لأنّها بحدّ ذاتها لا تكون ضمانة دائمة لأيّ وجود حرّ. والبديل عنها يكون بتأمين الضمانة لهذا الوجود عبر تثبيت حمايته في دساتير الدّول والشرع العالميّة. وهذا ما لحظه معظم دساتير الدول الحضاريّة، والشرع العالميّة لحقوق الإنسان. وفي هذه الحالة، تأتي ثورات الشعوب لتصوّب المسار متى اختلّ وتمّ الاعتداء على الحرّيّة التي تعتبر هي وحدها جوهر الوجود.

 

في المحصّلة، لا شيء ثابت ومستقرّ سوى الذي خَلَقَ، كلّ شيء خاضع لمبدأ التحوّل، بما في ذلك الوجود. ويبقى الأهم هو في الارتقاء من الوجود إلى تثبيته في الحضور الفاعل. لذلك، مهما اشتدّت زوبعات الشرّ ففي نهاية المطاف هي آيلة إلى النهايات. لذلك الأمل موجود دائماً. ومن ضروريّات الوجود والاستمرار هي التمسّك بهذا الأمل لأنّه حتماً سيوصلنا إلى نتيجة، ولأن لا بدّ للشرّ من أن ينتهي. والنتائج هي رهن قوّتنا على الاستمرار في المواجهة بهذا الشكل الجديد، والإصرار على تثبيت الحقيقة في صلب التفكير الإنساني وفي البعد الإجتماعي – السياسي.

 

تعطيل الرئاسة والدّولة والسلاح غير الشرعي والسيطرة الديموغرافيّة والاعتداء على أراضي النّاس وقتل قوّات حفظ السلام الدّولي والغزوات المتتالية لبيروت والجبل وعين الرمانة، والاغتيالات للسياسيّين والمفكرين وقادة الرأي، وكبح الثورات بالعنف، هذه كلّها من المتغيّرات التي لن يستطيع مَن اتّبعها نهجاً، أن يستمرّ بها لأن لا رجاء له. على قاعدة أن لا شيء يستمرّ حتّى المنتهى. لكن مَن يصبِر إلى هذا المنتهى وحده يخلص.