لا يمكن الحديث فعلياً عن فكرة تحالف الأقليات إلّا مع انهيار الإمبراطورية العثمانية وإعادة تركيب المنطقة وترتيبها، لأنه قبل هذا الإنهيار كان يستحيل مجرد التفكير بتحالف للأقليات في مواجهة «الرجل المريض».
ولّد انهيارُ الامبراطورية العثمانية شعوراً في لاوعي الأقليات بضرورة التحالف بين بعضها من أجل مواجهة الأكثرية السنّية ومحاولة قطع الطريق أمام قيام أيّ خلافة جديدة تُعيد قمعهم وإخضاعهم.
ولكنّ هذا الشعور لم ينتقل يوماً إلى الترجمة العملية الفعلية والمنظَّمة، بل بقي مجردَ أفكار ترويجية لم تتجاوز التمنّيات غير الواقعية، وذلك لسببين: الأول يتعلق باستحالة قيام تحالف بين الأقليات، والثاني كون تصوير الأكثرية بأنها موحَدة في سياق خيارات واحدة لا يعكس حقيقة الوضع والأمور، بل معظم أهل السنّة ضدّ العودة إلى ما قبل سايكس-بيكو.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما الأسباب التي حالت دون قيام تحالفٍ موضوعيّ بين الأقليات؟ وفي الإجابة يمكن التوقف أمام الأسباب الآتية:
أولاً، على مستوى الموحِدين الدروز: الثابتة التاريخية-الأساسية لدى الدروز تتمثل في التحالف مع الأكثرية السنّية. فأولوية الموحِدين بهذا المعنى الانفتاح على الأكثرية لانتزاع ضمانات سياسية، وحرصهم على جغرافيتهم وديموغرافيتهم لم يدفعهم يوماً الى انتهاج سياسات تستفزّ هذه الأكثرية.
فالدروز أدركوا أنّ حماية وجودهم وحضورهم ودورهم تكون من خلال الوصل والربط مع العمق العربي والسنّي، فلم يقيموا أيّ اعتبارٍ لتحالف أقلّوي. وقد جاءت أحداثُ أيار ٢٠٠٨ لتدفعهم الى انتهاج سياسة النأي بالنفس عن السنّة والشيعة مع ميلهم الطبيعي للسنّة.
وفي المقابل، أيّ تحالف أقلّوي هذا الذي يدفع أقليَتَين درزية ومسيحية الى التقاتل بشكلٍ غير مسبوق بين أيّ طوائف اخرى، وذلك في ثلاث محطات رئيسة: ١٨٤١، ١٨٦٠ و١٩٨٣. فأولوية الحفاظ على وجودهم لا تمرّ من خلال تحالف الأقليات، بل عبر الربط مع المحيط.
ثانياً، على مستوى العَلَويين: الاستراتيجية التي أرساها الرئيس حافظ الأسد كانت مثلَّثة الأضلاع: المزايدة على السنّة في الصراع العربي-الإسرائيلي، التحالف مع الثورة الإيرانية وتبريره في سياق سعيه الى التقريب بين الدولة الإيرانية والدول العربية وتحديداً الخليجية، الدخول الى لبنان من أجل الخروج من المستنقع السوري-المحلي الى رحاب الدور الإقليمي. فالعينُ اليمنى لحافظ كانت على السنّة، واليسرى على الشيعة، والاثنتان معاً على لبنان.
وعلى رغم أولويته العَلَوية، إلّا أنه لم يُظهر ميلاً لقيام تحالفٍ أقلَّوي، بل إنّ ممارسته في لبنان دلت على أنه لا يختلف في العمق والجوهر عن المنطق الأكثري، حيث تعاطى مع اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً من منطلق الحاكم لا الشريك.
فالعَرْض الذي قدَّمه العَلَوي للمسيحي في لبنان هو أن يتنازل عن السيادة مقابل أن يوفّر له الدور والحماية، وبالتالي لم يكن في وارد التعامل معه كشريك، بل كتابع. وجاءت الحرب السورية لتسقط كلّ استراتيجيته.
ثالثاً، على مستوى الشيعة وتحديداً «حزب الله»: سعى الحزب منذ قيامه الى المزايدة على السنّة من باب المقاومة ضدّ إسرائيل وإظهارهم بمظهر المتخاذل الذين تخلّوا عن العَلَم الفلسطيني الذي أعاد رفعه، وأنه نجح بالصمود في مواجهة إسرائيل فيما هم حصدوا الهزائم والخيبات والانكسارات. وقد شكلت المقاومة غطاءً لمشروعه المذهبي، حيث يوفر له السلاح الضمانة لحماية وجوده والانتقام الضمني لقرون من الاضطهاد.
هذا الانتقام بالذات الذي جعل ممارسته لا تختلف عن الممارسات التي عاشها وتعرّض لها مع اختلاف الظرف والزمن، وتعامله مع المسيحي لم يختلف عن تعامل العَلَوي مع المكوّن المسيحي، فدعاه لتغطية سلاحه والتنازل عن السيادة مقابل أن يمنحَه نفوذاً وسلطة. فالحزب أثبت أنْ لا شريك له ويتعامل مع الجميع على قاعدة «الأمر لي»، الأمر الذي يتناقض مع ميثاق العيش المشترَك ويحول دون عودة لبنان دولة سيدة ومستقلة.
رابعاً، على مستوى إسرائيل: تمّ إلباس تل أبيب ثوبَ تحالف الأقليات، فيما سعت دوماً للتحالف مع الأكثرية، وفي مطلق الأحوال لا مصلحة لأيّ أقلية بالتحالف معها، لأنها سوف تضع نفسها في مواجهة مع الأكثرية. فالمصالحة مع إسرائيل أو السلام يكون من خلال الأكثرية، وخلاف ذلك مستحيل.
خامساً، على المستوى المسيحي: أقام المسيحي شراكة فعلية مع الأكثرية السنّية نتج عنها لبنان الكبير وميثاق العام ١٩٤٣ واتفاق الطائف، وعلى رغم ما شهدته من فترات تباعد وانفصال ظلّت الخيار الأول المرتكز على مبدأ الحرية والشراكة والسيادة.
فتجربة المسيحيين مع إسرائيل دُفعوا إليها وهي خيار فاشل، والتجربة مع العَلَوي لم تكن أقل من احتلال، ومع «حزب الله» تفرُّد واستئثار وهيمنة وتجربة لا تشبههم ولا تشبه البلد الذي كان لهم المساهمة الأكبر في إنشائه.
ومع الدروز حدود العلاقة لا تتجاوز تنظيم اختلافهم في المناطق المشترَكة بينهم. فالمسيحي لا يستطيع أن يكون ملحَقاً بمشروع البعث ولا «حزب الله»، ولا أن يكون محمِياً من إسرائيل في مواجهة المحيط الذي يعتبر نفسه جزءاً لا يتجزأ منه.
وعليه، كلّ ما يُحكى عن تحالف الأقليات هو وهم. الأقليات الإسلامية رفعت العناوين الكبرى للمزايدة كمصدر حماية لنفسها، وسلوكها ديكتاتوري لا يقبل حليفاً ولا شريكاً، والأقلية المسيحية اصطدمت مع كلّ الأقليات الإسلامية بسبب رفضها الرضوخ والاستتباع، وما زالت تراهن على إحياء الميثاق اللبناني مع الأكثرية السنّية، هذا الميثاق الذي شكّل مصدرَ حماية لكلّ الأقليات في لبنان وأدّى إلى قيام التجربة اللبنانية والنموذج اللبناني.
ولكن، هل الحرب السورية بدّلت في توجّه الأقليات الإسلامية بعد فشل مشاريع هيمنتها تحت مسميات وطنية وانكشاف أهدافها الحقيقية، وبالتالي ذهابها نحوَ التقسيم؟ وهل تتأثر الأقلية المسيحية بهذا التوجّه؟