يحار المرء في التعامل مع تحليلات كثيرة صدرت، وستصدر، تقدم ما حصل في فيينا على أنه أشبه بانقلاب إيران على نفسها. تحوّل يحاكي بمكان ما ما حصل مع «مصر – كامب ديفيد» ومع «فتح – أوسلو». مقاربات ترى أن الجمهورية الإسلامية خرقت أولى خطوطها الحمر يوم قررت الجلوس مع الأميركي وجهاً لوجه إلى طاولة التفاوض. وتعتبر الذروة يوم وقف محمد جواد ظريف مع نظرائه من مجموعة «5 + 1» لإعلان التوصل إلى تفاهم فيينا.
أصحاب هذه النظرية يبنون تقييمهم على نوعين من الاستنتاجات:
الأول داخلي، يقول بانتصار الفريق المؤيد للمفاوضات (الإصلاحيون وكوادر البناء)، ما يبشر بقرب اكتساحه للحكم في الانتخابات المقررة بداية 2016 على حساب الفريق المعارض (الأصوليون)، وبالتالي سيتغير وجه إيران.
أما الثاني فخارجي، يقول بتغيّر جذري في مقاربة إيران للعالم، باتجاه مزيد من الانخراط في علاقات مع الغرب على حساب مبادئ الثورة الإسلامية وحلفائها من حزب الله إلى سوريا والعراق واليمن…
ليس معلوماً من قال إن الجمهورية الإسلامية ضد أصل التفاوض مع الولايات المتحدة. صحيح أنهما في صراع مذ أطاحت الثورة نظام الشاه قبل 36 عاماً، لكنه صراع سياسي بامتياز وليس صراعاً وجودياً. مشكلة طهران مع واشنطن أنها دعمت نظام الشاه وطغيانه، وحاربت الثورة منذ قيامها حتى يومنا هذا، بكل الوسائل والسبل، لعل أبرزها حرب السنوات الثماني العراقية – الإيرانية، كما أنها استعبدت الشعوب ووقفت مع الظالم (اقرأ إسرائيل) ضد المستضعف (اقرأ شعوب فلسطين وللبنان وسوريا والأردن ومصر). وحتى في ظل هذا الوضع، لم تقل إيران يوماً إنها ضد التفاوض مع أميركا – «الشيطان الأكبر». فقه الثورة يجيز حتى الصلح مع الأعداء وليس فقط التفاوض، ضمن شروط طبعاً وعلى قاعدة «وإذا جنحوا للسلم…».
مشكلة إيران كانت في أن أميركا لم تكن تقبل التفاوض بلا شروط. ظلت أميركا تبني سياستها كلها على قاعدة المواجهة والإخضاع. تريد إسقاط الثورة تارة، وتغيير النظام أو تغيير سلوكه طوراً. وعندما كانت تفتح كوة ما في جدار العلاقات، كانت واشنطن تريد إملاء الشروط وفرض التسويات.
في المقابل، كانت إيران تصر دوماً على أساسين لأي جلسة تفاوضية لم تتنازل يوماً على أي منهما: الأول، اعتراف أميركي بإيران ككيان سيد له كينونته السياسية والثقافية والاقتصادية المستقلة. أما الثاني، فهو الجلوس إلى الطاولة من الند إلى الند. وهو ما لم يتحقق لها إلا في عهد باراك أوباما، علماً بأن اللقاء الثنائي الرسمي المباشر الأول بين إيران وأميركا جرى في العام الأخير من ولاية الرئيس السابق جورج بوش الابن في إطار مجموعة «5 + 1».
أصلاً حكاية المفاوضات التي جرت ضمن هذا الإطار تصلح بذاتها موضوعاً لرواية من مئات الصفحات: إيران وحدها في مواجهة أميركا وبريطانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي مجتمعة (أخذاً بالاعتبار أن المفاوضين الروسي والصيني كانا في غالبية الأحيان متعاطفين مع مطالب طهران). رواية تشرح بالتفصيل كيف انتزع المفاوض الإيراني احترام محاوريه باحترافيته وخبرته وجرأته واحترامه لنفسه ولقيادته ولبلده. وكيف كان حريصاً على التعامل بالمثل والرد على كل كلمة أو حركة أو سلوك مهما كان صغيراً وتافهاً، ينم عن نزعة نزق أو تفوق، بما يعادله.
وليس معلوماً أيضاً من قال في إيران إنه ضد التوصل إلى اتفاق مع أميركا في الموضوع النووي يحفظ لإيران حقوقها بالكامل، ولا يوجب تقديم تنازلات جوهرية سواء في النووي أو في الملفات الأخرى. في إيران كان هناك أكثر من رأي، الخلاف بينها كان في تقدير النتيجة التي يمكن أن يؤدي إليها المسار التفاوضي. فريق كان يحاجج بأن أميركا خائنة غدارة لا تلتزم مواثيق ولا عهود، ولن تقبل باتفاق يستجيب للمطالب الإيرانية. وفريق آخر يدعو للانخراط الإيجابي، مراهناً على أن مستوى معين من الطمأنة للغرب يمكن أن يؤدي إلى نتيجة مقبولة تُرفَع بموجبها العقوبات الجائرة ضد إيران.
الدليل على ما تقدم أن الأصوليين، ممثلين بإدارة الرئيس المتشدد محمود أحمدي نجاد، كانوا أول من ولج غمار التفاوض مع أميركا. حصل ذلك في الأشهر الأولى من تسلمه الرئاسة. وقتها، أدار نجاد، ممثلاً بمستشاره وقريبه اسفنديار رحيم مشائي، حواراً غير مباشر مع إدارة جورج بوش، عبر رئيس مجلس العلاقات الإيرانية ـــ الأميركية، هوشنغ أمير أحمدي، الذي يعيش في مدينة برنستون في ولاية نيوجيرزي ويدرّس مادة الاقتصاد في جامعة راتغرز المجاورة. حوار بلغ مراحل متقدمة، وكاد أن يحقق اتفاقات على تسيير رحلات جوية مباشرة بين إيران والولايات المتحدة وإقامة تمثيل قنصلي إيراني في أميركا.
حتى على مستوى البرنامج النووي، قد يفاجأ البعض بأن اتفاق فيينا، سبق لإدارة نجاد أن توصلت إلى شبيه له يحاكي جزءاً كبيراً من بنوده قبل عامين من انتهاء ولايته الثانية. وما منع ولادته في ذلك الحين كان تملّص إدارة باراك أوباما منه ورفضها توقيعه. وقد كشف عن ذلك المرشد علي خامنئي في أحد خطاباته في الأشهر الماضية.
الأنكى، الذي لا بد أن يغيظ المحللين السالفي الذكر، أن الإنجازات التي حققها فريق روحاني على طاولة التفاوض في جنيف وفيينا وغيرها، بنيت على الإنجازات التي حققها الفريق الأصولي في الميدان، سواء في النووي (عهد نجاد) أو في ساحات الصراع من لبنان إلى اليمن مروراً بسوريا والعراق وغيرها. أكثر من ذلك. يحلو لهؤلاء تجاهل حقيقة أن إجماعاً إيرانياً كان قائماً خلف «الخطوط الحمر» التي أعلنها المرشد. موقف موحد لمختلف ألوان الطيف السياسي، يعكس وحدة إيران حول الملفات المتعلقة بكرامتها الوطنية وأمنها القومي.
ربما من المفيد لهؤلاء، الاستماع إلى تصريحات الرئيس الأميركي باراك أوباما بالأمس، وهو الذي لا يمني النفس بأي رهان على تغيير في إيران، لا على المستوى الداخلي ولا في ما يتعلق بسياستها الإقليمية.
على اللبيب من الإشارة أن يفهم.