IMLebanon

الوهم المقوّض للحركات الاحتجاجية: «أنا الشعب»

انكماشة الشارع مجدداً ليست، ولا يفترض أن تكون بالخبر المبهج. أنْ تنبت حيوية، مطلبية، احتجاجية، في الصيف الذي ودعناه منذ أسابيع، ثم تُهْدَر، عزفاً على منوال حيويات سبقت، وأنْ تنحدر هذه الحيوية من الوثبة الجماهيرية أواخر آب، الى الإحساس الفظيع بالهامشية والهشاشة في بدايات تشرين، فهذا ينبغي أنْ لا يطمئن أحداً. 

كمياه الأمطار التي نهدرها كل شتاء، كانت احتجاجات الصيف. هدر؟ حلقة مفرغة؟ أمل زائد عن حدّه سرعان ما ينقلب خيبة؟ مكابرة جامحة لا ينتبه المصرّون عليها أن رقعتها تزداد انحساراً، كلما ازدادوا توتراً ومكابرة؟ كل هذا صحيح وخاطئ في آن. الطاقة الاحتجاجية أهدرت الى حد بعيد لكن الحال لن تعود كما كانت قبل تحرير كل هذه الطاقة. 

ليست مشكلة هذه الطاقة الاحتجاجية أن بضعة أنفار انحرفوا بها بعيداً عن التثمير الاجتماعي التدرجي الواقعي المناسب. مشكلتها في الطابع المزمن لفساد شعار الإصلاح في هذا البلد بالدرجة الأولى. منذ أربعين خلت هناك شعارات يتعامل معها القاصي والداني على أنها تغييرية، سواء كانت واقعية أم لا، ويشعر حتى من يقف بوجهها بنقصان أو تخلّف تجاهها، لكنها شعارات بالية، ركيكة، وهذه الشعارات التي لا تزال تلاك منذ بداية السبعينيات الى اليوم ليس فيها أي شيء جديد. أكثر ما فيها اجترار. والاجترار بدوره يأتي معطوفاً على ضيق الصدر. النفور العام من وزن الحجة بالحجة، ومقابلة الدليل بالدليل. 

الشعارات الإصلاحية البالية هي تلك التي لا طاقة لها للتصالح مع مفردات المعاش اللبناني كما هو. هي شعارات تمرّن أصحابها على الكذب الصريح: «نحن الشعب» يقولون، فيما الأكثرية الساحقة من الناس لم توكلهم. حينها تنحدر الكذبة الصريحة الى ابتذال إضافي. يفسّرون انعدام شعبية من ينصب نفسه «أنا الشعب» بأنّ مرّدها كون الشعب يرسف بالأغلال. ثم يزيدون بأنّه شعب جاهل، بزعم أنه يرسف بالأغلال، وهم بصدد إيقاظه، لا، لا وقت لإيقاظه، لأنه طمى الفساد حتى غاصت الركب، لا وقت لإضاعته على الشعب، كل ما هناك هو النطق باسمه، الولاية عليه من موقع منظمات المجتمع المدني والجمعيات غير الحكومية. 

كل هذا يبدأ دائماً من لعب مناقضة خبيثة. المناقضة بين الجماهير التي تتحرك مطلبياً ومعيشياً وبين الجماهير التي نزلت الى الشارع من أجل استقلال لبنان، وإجلاء جيش الوصاية السورية، والحقيقة والعدالة للرئيس الشهيد رفيق الحريري وسائر ضحايا الاغتيالات، وإطلاق سراح الدكتور سمير جعجع، وعودة العماد ميشال عون من منفاه، ثم التحشيد ضد استمرار التمديد لاميل لحود، وضد تحكيم السلاح الفئوي في الداخل اللبناني، ومجدداً عند كل عتبة ضد الاغتيالات. 

جماهير الاحتجاجات المطلبية ليسوا من طينة مختلفة. كثير من الناس كانوا في المعتركين بالتوازي أو التعاقب. هذه لا تلغي تلك. الأولويات لا تقصي بعضها بهذا الشكل الدراماتيكي الموهوم. 

الخبث المتمثل بمناقضة جماهير الاستقلال الثاني، والسيادة والعدالة، مع جماهير النضال الاجتماعي، هو خبث توجب رفضه في الحالتين: في حالة ظلم الحركات المطلبية باسم القضية الوطنية الاستقلالية، وفي حالة ظلم هذه القضية الاستقلالية باسم الاحتجاجات المطلبية. 

هذا هو الشعب المتحرك بشقيه، وطبعاً هناك الشق الثالث المتمثل بجمهور «حزب الله» نفسه وخياراته في الداخل والإقليم. أياً كان الموقف من هذه الخيارات فهذا أيضاً جزء من هذا الشعب. كسواه لا يمكنه أن ينطق بعبارة «أنا الشعب» بصدقية، لكن شعباً يلغي ركنه هذا من الصورة سيكون شعباً مزور الصورة.