Site icon IMLebanon

أوهام التحالف مع الشيطان

بعد انعقاد مؤتمر فيينا للنظر في المسألة السورية، تراجعت بالونات الاختبار التي اطلقت حول امكانية قيام تحالف اسرائيلي عربي ضد ايران الا انها ما زالت كامنة بانتظار لحظة مناسبة لإعادة تحريكها. فهناك بين مؤيدي اسرائيل تحديداً من هو على استعداد للقيام بهذه المبادرة عندما تحين تلك الفرصة. وإذ يقارن هؤلاء صعود ايران الإقليمي والدولي بصعود ألمانيا خلال الثلاثينات والأربعينات، فإنهم يدعون الزعماء العرب الذين يترددون في قبول مشروعهم الى تذكر ما جاء على لسان ونستون تشرشل، في معرض تبريره للتعاون بين بريطانيا والاتحاد السوفياتي البلشفي ضد ألمانيا النازية. قال رئيس الحكومة البريطانية آنذاك: «اذا غزا هتلر الجحيم (كما غزا روسيا) فإنني على استعداد، على الأقل، لامتداح الشيطان امام مجلس العموم البريطاني».

ولكن هل يشكل الصعود الإيراني تحدياً للدول العربية يماثل ويوازي تحدي ألمانيا للنظام القاري الأوروبي؟ وإذا كان هذا التقييم سواء لإيران او للتحدي الذي تمثله في محله، فهل يكون الجواب عن هذا التحدي أن يضع العرب يدهم بيد «الشيطان الإسرائيلي» من اجل صيانة المنطقة العربية من الأخطار التوسعية والهيمنة؟ في الإجابة عن هذا السؤال، فإنه من المستحسن ان تؤخذ بعين النظر الاعتبارات التالية:

1- ان ايران هي غير ألمانيا الثلاثينات والأربعينات. فألمانيا الهتلرية كانت بلداً استكمل تحوله الى دولة صناعية كبرى، وكانت هي في حد ذاتها وبعد نجاحها في تحقيق وحدتها القومية، دولة كبرى من دول القارة الأوروبية والعالم. وصحيح ان القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى فرضت القيود الكثيفة على تسلح ألمانيا، ولكن القيادة العسكرية الألمانية تمكنت من تجاوز لائحة المحظورات، فارتفع عديد الجيش الألماني مما يقل عن المئة الف الى ما يقارب 18 مليون جندي خلال الحرب، كما تطور التسلح الألماني بحيث تفوق على ما كانت تملكه بريطانيا وفرنسا. وهكذا اعتمد النازيون على جيش قلّ نظيره في اوروبا والعالم. واستخدموه كأداة رئيسية، بالتعاون مع حلفائهم في ايطاليا واليابان ودول اوروبية اخرى، لتحييد وإضعاف مناوئيهم في القارة وبخاصة فرنسا وبريطنيا. كذلك اضطلعت القوات الألمانية المسلحة بمهمة احتلال وضم اراض اعتبرتها جزءاً من ألمانيا وللسيطرة على القسم الأكبر من القارة. ولم يختل ميزان القوى بين ألمانيا وأعدائها الا بعد عدوانها على روسيا بغرض احتلالها والسيطرة على مورادها الطبيعية الهائلة.

اما ايران فلا تزال في طريقها الى التحول الى دولة صناعية، وهي رغم النفوذ الذي اكتسبته في دول الجوار العربي لا تزال قوة اقليمية وليست دولية. هذا يعني انها في الحروب المفتوحة قد تتمكن من الصمود في مواجهة قوى اقليمية مثلها، ولكنها غير مهيأة لردع عدوان دول كبرى. وصحيح ان نفوذها الإقليمي قد نما بصورة ملحوظة ولكن من دون الاعتماد على جيشها، ونتيجة الاحتلال الأميركي للعراق وما تبع ذلك من تداعيات في سورية. ورغم الدعاية الواسعة التي تحيط بالقوات المسلحة الإيرانية، فإن ايران لم ترسل جيشها، علناً، الى خارج اراضيها للتأثير في الأوضاع في الدول العربية او غير العربية. ولا ريب ان للشطارة السياسية دوراً في الابتعاد عن مثل هذا السلوك. اما لو حاولت ايران التدخل في دول مجاورة اخرى، او احتلال إحداها، علناً وبالاعتماد على القوى النظامية، كما فعل العراق مع الكويت، لأدى ذلك الى ردود فعل دولية تقودها الولايات المتحدة، وإقليمية، تشترك فيها على الأرجح تركيا وباكستان، بحيث تؤثر في استقرار الأوضاع في ايران ذاتها.

ما عدا ذلك فإن أداة التدخل الرئيسية لإيران خارج اراضيها تمثلت بالجماعات غير او شبه النظامية التي تدين لها بالولاء. ان هذا النوع من التدخل قد يكون مؤثراً ولمصلحة ايران ويؤدي الى تعزيز نفوذها الدولي والإقليمي ولكن ليس في كل الحالات. وقد يؤدي الى عكس الأغراض المتوخاة منه. وهكذا، ففي المثال العراقي وعلى رغم التجاوب الذي تلقاه طهران من فريق واسع من العراقيين، فإن اتجاهها الى دعم بعض الرموز السياسية التي ارتبط اسمها بالفساد والفشل الذريع في الحكم، اخذ يؤثر في الآونة الأخيرة في مكانة ايران في العراق، ويدفع قسماً من انصارها الى البحث عن طريق لإخراج العراق من ازماته عبر اعطاء المصالح الوطنية العراقية الأولوية على ما عداها. نستنتج مما سبق ان ايران تشكل تحدياً كبيراً لدول المنطقة العربية، ولكن هذا التحدي ليس كبيراً الى الحد الذي يفرض على الدول العربية نسيان التحدي الأكبر المتمثل بالمشروع الصهيوني.

2- لم يكن من السهل على بريطانيا التعاون مع «الشيطان البلشفي»، ولا كان من السهل على الاتحاد السوفياتي التحالف مع «الشيطان الرأسمالي»، ولكن هذا التحالف حتّمته الضرورات، ضرورات الحفاظ على الذات وحماية الوطن، وهو الواجب الأول لأية دولة مهما كانت مكانتها وقدراتها. وخلال الحرب العالمية الثانية، كانت القيادات الحاكمة في الدول المتصارعة تشعر بأنها تخوض معركة مصير ووجود. هذا الشعور سهّل التحالف ضد العدو المشترك. ولكن هناك عاملاً اضافياً ساعد على ولادة التحالف. تمثل ذلك العامل في تعدد الفضاءات التي انتمت اليها القوى الكبرى ومناطق النفوذ التي هيمنت عليها. فبريطانيا كانت تمسك بإمبراطورية عالمية خارج أوروبا، والاتحاد السوفياتي كان يرغب في التمدد وفي نشر مبادئ الاشتراكية ولكن في الدول المجاورة والقريبة من روسيا ولم يطمح الى توسيع دائرة نفوذه المعنوي والسياسي في بلدان بعيدة. فضلاً عن ذلك فإن الولايات المتحدة التي شكلت الضلع الثالث للحلفاء، كانت مكتفية بدورها في القارة الأميركية.

تلك القسمة «الطبيعية» سهلت ولادة التحالف الثلاثي ضد ألمانيا النازية، ولكن بين العرب وإسرائيل لا يوجد مثل هذا التنوع والتوزع. فإسرائيل قامت على انقاض بلد عربي عريق، وهي تحتل اراضي عربية في سورية ولبنان. والزعماء الصهاينة يعتبرون، كما كتب ابا ايبان، (فم الصهيونية الذهبي)، ان الشرق الأوسط هو منطقة فسيفسائية من حيث التنوع والتعدد والتبعثر، ولكن الله أنعم عليها بولادة اسرائيل على ارضها بحيث تشكل، هي لا غيرها، عنصر التوحيد والتمازج والتضامن بين جماعاتها التي تفتقر إلى الهوية الجامعة. في هذا السياق وصف ايبان ولادة معاهدة «كمب ديفيد» بين مصر وإسرائيل. انه سياق اسرائيل الدولة الإقليمية العظمى التي تمتد مصالحها، كما وصفها آرييل شارون، من جنوب روسيا الى وسط افريقيا، ومن كراتشي الى البحر المتوسط.

لهذه الأسباب، يمكن القول إن فلاديمير جابوتنسكي كان صادقاً وصريحاً عندما قال إن الحرب الدائمة مع العرب هي الطريق الوحيدة إلى تحقيق أهداف المشروع الصهيوني. فالصهيونية، بخاصة التي تقودها الأحزاب التي تخرجت من مدرسة جابوتنسكي، تبني الكيان العبري على أنقاض الكيانات العربية سواء اجتمعت هذه الكيانات الأخيرة في منظومة إقليمية ام اختارت البقاء خارجها.

إزاء هذه التحديات ما حاجة الدول العربية الى «امتداح الشيطان» وإلى التحالف معه؟ إزاء هذه التحديات تملك الدول العربية خياراً واضحاً يتمثل في إحياء مؤسسات العمل العربي المشترك وفي مقدمها، في المرحلة الراهنة، مجلس الدفاع العربي المشترك. وإزاء هذه التحديات تملك الدول العربية خيار تطبيق مشاريع التعاون والتنسيق التي سبق ان اختبرت وحققت نجاحات مهمة. ومثل هذه المشاريع هي التي تردع الطامعين وتعيد السلام العربي- العربي إلى المنطقة.