أنا وزغير كِنت إستصعِب كتير إقناع أمّي بأنني لستُ عنزة، لأنّها كانت كلّما تلمح ورقة كلينكس مرميّة على بعد سنتيمترات من سلّة النفايات أو شويّة كركبة في غرفتي أو إذا زعَجِتها صفِّة الكُتب داخل دهاليز شنطة المدرسة، كانت تُكرّر على مسمعي أن «حتّى العنزة بتنضِّف مطرحها قبل ما تنام»، في محاولةٍ حثيثة منها لتعليمي على أن أكون أفضلَ من العنزة أقلّه في موضوع النظافة المنزلية وإدارة النفايات الشخصية.
لا أعرف إذا كان هذا المَثل شائعاً في منازل أصدقائي وعلى لسان أهلهم، ولا أعرف إذا كانوا تعلّموا النظافة وتربّوا على أمثالٍ حيوانية تشمل الحمير مثلاً أو الخواريف ودجاج الأرض… لكنّني أشعر حاليّاً برغبةٍ جامحة لتلاوة مِثال العنزة على مسمعِ كلّ شخص متساهِل ومتواطئ ومتخاذل في موضوع النفايات الوطنية الجامعة لكلّ المحافظات والأقضية والطوائف والانتماءات… خصوصاً أنّني أشعر أكثر من أيّ وقتٍ مضى في حياتي بأنّني فعليّاً وحرفياً لستُ عنزة بأيّ معيار من المعايير الأوروبية والإنسانية، فأينما نظرتُ وشممت وأينما لمستُ واستطعمت وسمعت.. ألمح طيفَ النفايات، ولا أجد أيّ تبرير منطقي أقوله للعنزة التي ترقد في جبل لبنان أو حتى لإرثِ وجودها.
المنابر مليئة بالرعيان والساحاتُ مكتظّة بالقطعان، والجميع مشغول بأحجام الكتل ومصالح مزرعتِه… لكن عندما يعود الشتاء وتطوف السماء وتنجرف خيرات الإهمال على الطرقات، ستصغر كلُّ الكتل أمام عملاق النفايات، وزحمةُ السير التي اشتكينا منها تحت شمس أيلول ستصبح جلجلةً في كانون، وسنحمل جميعُنا صليبَ الفساد ولن نجد مسؤولاً نطرقُ بابَه أو نسير خَلفه ليقوم بنا من تحت ما حلّ علينا… وبعد إجازتها الصيفية المطوَّلة، ستبقى مصارفُ المياه عاطلة عن العمل حتى خلال الشتاء طالما إنّ همَّ الانتخابات منصبٌّ على الزفت حصراً وتوسيعِ برَكِ سباحة السيارات، لأنّ قناة الصرفِ الوحيدة التي تعمل بشكل طبيعي في البلد هي قناة الصرف السياسية التي تبرَع في شطفِ اهتمامات الناس وبَلعِ شكواهم.
وعندما يَعتلي الزعيم منبرَه ليُخيفَ طائفته من هجمةِ الطائفة الثانية، ويُهوّل عليها من مخاطر الإلغاء والتطهير، لننظرَ حينها إلى أطباق أولادنا وأخواتِنا وأهلنا ونتذكّر أنّ الطوائف تأكل النفايات بالتساوي، والأمراض تأكلنا بلا تفرِقة… فمياهنا الجوفية وخضارُنا وفواكهنا ومواشينا وأسماكُنا تتغذّى على رواسبِ النفايات التي يتمّ إخفاؤها من المسؤولين مثلما يَخفي المهملون الغبرةَ تحت طرفِ السجّادة.
المستهتِر بصحّة المواطنين في بلدٍ بأمّو وأبو، لا يمكن أن نتخيّل أن يكون مهتمّاً بسلسلة رتب ورواتب أو موازنة أو مكافحة فساد ووقفِ هدر… لأنّ إيجاد حلٍّ واحد وحيد مِن بين عشرات الحلول البديهية والمتحضّرة لمسألة النفايات في لبنان، كفيلٌ لوحدِه أن يدفعَ زيادات الرواتب للقطاعَين العام والخاص، وحماية كرامة ما تبَقّى مِن بِضع شجرات خضراء حفظَت عن أجدادها قصصَ معبدِ سليمان الحكيم.
قريباً، وبهمّةِ حُماة طوائفِنا الأبرار، ستُزاحمنا الأكياس الزرقاء والسوداء على أبواب السفارات… لأنّها هي أيضاً باتت تخجَل من أن تكون حتى كيساً للنفايات في لبنان، ومثلما نرغب نحن بالعيش بين الأجانب، بدأت هي تحلم بالنوم ليلةً واحدة داخل حاويةٍ متحضّرة قبل أن تموت بكرامة.
ماما.. عذراً، فقد خيّبتُ ظنَّكِ، لأنّني لم أتمكّن من أن أكون حتى عنزة في بلد الأرز.