كالصاعقة نزل خبر اعتقال أمير «داعش» عماد ياسين في عين الحلوة على مناصريه. أسابيع من التحضير، قلوبٌ تخفق بسرعة، مخاطر كبيرة تواجَه، حياة خيرة عناصر قوات النخبة في مديرية المخابرات على كفّ إرهاب، والنتيجة: «عملية أمنية نظيفة مئة في المئة»، فكيف حُضّر لها، وما هي التفاصيل التي تُكشَف للمرّة الأولى؟
لم يشكّ في أنّ المديرية أوقفَته، إذ لم يخطر بباله أنّها قد تملك شجاعة القبض عليه بين جماعته وحرسهلا شكّ في أنّ غياب الدولة عن مخيّم عين الحلوة شكّلَ فرصة ذهبية للإرهابيين الذين توافَدوا إليه وفعَّلوا بؤَرَهم الأمنية فيه، خصوصاً أنّه عُرف بالملاذ الأكثر أماناً للفارّين من وجه العدالة آنذاك. أمّا اليوم فالمعادلة تغيّرَت وباتت عين الجيش «مفتَّحة» على اللاجئين في عين الحلوة، خصوصاً المتوافدين من مخيّم اليرموك، كما أنّ الأجهزة الأمنية عزّزت إجراءاتها بعد ظهور «النصرة» و»داعش» على الساحة، وبعد انتشار تهديدات أو تسجيلات على وسائل التواصل الاجتماعي، تبيّن أنّ غالبيتها كانت من المخيّم.
رقابة كشفَت المستور
رقابة مشدّدة فرَضتها الأجهزة الأمنية على المخيّم، حتى وصَلت إلى مبتغاها لتكتشفَ تفاصيل جديدة يوميّاً، منها حقيقة تجنيد أشخاص وإرسالهم إلى سوريا والعراق للقتال إلى جانب «داعش»، حتى تبيّنَ أنّ بعض الذين نفّذوا عمليات انتحارية كانوا يعيشون داخل المخيّم.
أمّا الخطر الأكبر، فكان «الشبكات النائمة» لـ»داعش»، إذ إنّ الوصول إليها لم يكن سهلاً، خصوصاً أنّ القيادات في الجماعات الإسلامية تحمل أسماءَ عديدة ولا تظهر كثيراً في العلن ولا صوَر لها، لذلك كان من الصعب جداً تحديد هويّاتها، وهنا استغرقَ العمل جهوداً إضافية لتكتملَ الداتا لدى الأجهزة الأمنية لكي تتحرّك.
عماد ياسين، إسمٌ لطالما حرّكَ حماسة الجيش، فهو الصيد الثمين في المخيّم، كونه يملك تاريخاً في العمل مع المجموعات الإرهابية، وهو ما أكّدته التحقيقات التي تجريها الأجهزة الأمنية معه حاليّاً.
وياسين الذي كان يعمل في «الظل»، وصَل إلى مستويات مهمّة، لدرجة أنّه استطاع فكَّ لغزِ جريمة القضاة الأربعة المُحالة إلى المجلس العدلي، والتي لم يكن أحد حتى اليوم يملك تفاصيلها الكاملة، فكشفَ كيف نُفّذت واعترفَ بأسماء منفّذيها، مؤكّداً أنّهم قُتِلوا بعمليات في العراق وسوريا، وأنّ أحدهم قُتل داخل المخيّم، كما فضَح طريقة خروجِهم من المخيّم وتفاصيلَ الجريمة، ومَن أعطاهم الأمر.
ما هي القطبة التي أطلقَت العملية؟
عندما تقرّر إحضار ياسين، بعدما عُرف أنّ والي الرقة عيَّنه مباشرةً أميراً على «داعش» داخل «عين الحلوة» وليس من خلال عملية مبايعة داخل المخيّم، كان التحدّي الأساسي أمام الأجهزة الأمنية تحديد هويته، صورته، أيّ أماكن يرتادها، للحدّ من تحرّكه وشلّه وضربِه.
في البدء توافرَت صورة كان يُعتقد أنّها له، إلّا أنّ شكوكاً سادت حولها، خصوصاً أنّ الموقوفين لم يجمِعوا حول الإسم المُعطى لهوية الشخص الذي يظهَر فيها.
وفي لحظة معيّنة توافرَت معلومات لمديرية المخابرات أنّ «داعش» يحضّر لخطة إرهابية كبيرة لقطعِ طريق بيروت – الجنوب، وضربِ مواقع الجيش وتنفيذِ عمليات إرهابية متزامنة في أكثر من منطقة لخلقِ بَلبلة، تُقام على إثرها تحرّكات كتداعيات لهذه العملية.
يومها لم يستطع الجيش الوصولَ إلى ياسين، لذلك اتّخذ القرار بنشر الخرائط والخطة وأمر العمليات لإحباط هذا الهجوم، وهو ما حصَل، كما أنّ الإجراءات التي نفّذها الجيش صعَّبت تحرّكات الإرهابيين.
نشرُ هذه المعلومات ترافقَ مع ضغط أدّى إلى حصول حركة شعبية داخل المخيّم خوفاً من عملية عسكرية ضدّه، إذ إنّ الجيش كان حازماً بأنّه لن يسمح بأيّ خرقٍ أمني قد ينطلق من المخيّم. وأخيراً، خرج ياسين من وكره بهدف تبرئة نفسِه، نظراً إلى الضغط الشعبي وضغط بعض القوى الفلسطينية داخل المخيّم، فعقد اجتماعاً مع مجموعة قيادات إسلامية.
يومها تمكّنَت المديرية عبر خرقٍ معيّن من الحصول على الصورة الصحيحة له، وهذا كان رأسَ الخيط، لتبدأ بوضع خطة الوصول إليه.
التحضيرات للقبض عليه
ككلّ عملية، وضَعت خليّة الأزمة في مديرية المخابرات الأهدافَ والتداعيات وكلّ السيناريوهات المُحتملة وكيفيّة مواجهة كلّ منها وما الخطة التي ستُنفّذ، خصوصاً أنّ موضوع ياسين كان دقيقاً جدّاً لأنه عنصر غير عاديّ نظراً لكمّية المعلومات التي يملكها وكونه أميراً على منطقة وبيئة معادية للجيش وللقوى التي قد تنفّذ العملية.
لم يكن استدراج ياسين إلى خارج المخيّم سهلاً، بل احتاج تحضيراً ومستوى عاليَين من الدقّة ومراقبة تحرّكاته على مدار الساعة، بهدف التوصّل إلى تحديد مكان قريب جداً منه ووضعِ خطّة لإخراجه بأقلّ ضَرر ممكن، والمحافظة على سلامة المجموعة المنفّذة للعملية والمدنيين، إضافة إلى القبض عليه حيّاً للتحقيق معه وإحالته للمحكمة.
وهنا أظهرَت المراقبة أنّ مرافقَيه لا يكونان قريبَين منه خلال تحرّكاته، فحُدّدت بعض الأماكن التي يرتادها دوريّاً، وهي نقاط الضعف التي يمكن ضربُه من خلالها. ولهذا الهدف وُضِعت خطط عدة، حتى اتّفِق على إحداها وكان يجب أن تنفَّذ ضمن توقيت محدّد، لأنّ الخروج عنه يعرّض حياة المجموعة للخطر. وقد ارتكزَت الخطة على ثغرةٍ موجودة في أحد المحالّ غير المؤجَّرة وعَمدت المديرية إلى استئجاره من خلال أحد الأشخاص، فتمركزَت فيه مجموعة مراقبة مواجهة للمكان الذي تواجَد فيه ياسين، وراقَبوه على مدار الساعة أيّاماً عدة، وعلى أساسها جُمِّعت المعطيات وعاوَدت خليّة الأزمة اجتماعَها وقرّرت التوقيت والزمان المناسبَين للعملية.
يوم التنفيذ
إنتهى العدّ العكسي، ووصَل اليوم المنتظر لتنفيذ العملية، فتحرّكت المجموعة من بيروت يوم الخميس حين كان ياسين سيَقصد المسجد، وكان التركيز دقيقاً لدرجة تنبَّه العناصر إلى أنّه في آخر صورة التقِطت له كانت ذقنه حمراء، أمّا حين قُبض عليه، أي بعد أقلّ من 10 ساعات، فكان قد صبَغها باللون الأسود.
خرجَ ياسين من بيته قاصداً المسجد، وكانت المجموعة على عِلم بأنّه يحمل مسدّساً تحت عباءته من جهة اليسار، فكان الهدف عدمَ إتاحةِ المجال أمامه لسحبِ مسدّسه بيدِه اليمنى، لذلك خرج العناصر على غفلةٍ وسيطروا عليه سريعاً وجرّوه لمسافة 4 أمتار كانت تفصلهم عن المحلّ المُستأجَر بعد فتح ثغرةٍ فيه، ليُسحَب بعدها إلى خارجه من الجهة الأخرى حيث كانت إحدى السيارات تنتظره، ليُنقل مباشرةً إلى ثكنة صيدا حيث كانت قوّة أخرى تنتظره لنقلِه إلى بيروت والتحقّقِ من هويته.
حالة صدمة سيطرَت على من كان قريباً من ياسين لحظة تنفيذِ العملية، لأنّها لم تستغرق أكثرَ من ثوانٍ معدودة، وحين لاحَظ حرّاسُه اختفاءَه ونتيجة عجزِهم عن تحديد الاتّجاه الذي اختفى فيه، بدأوا بإطلاق النار عشوائياً من دون أن يصيبوا أحداً ومن دون وقوع اشتباك مع الجيش لأنّ القوّة كانت قد انسحبَت بكامل عناصرها.
لم يستوعب ما حصل
لم يستوعب ياسين ما حصل، ولم يَعلم أنّ مديرية المخابرات قبَضت عليه، بل شكّ أوّلاً بأشخاصٍ آخرين، إذ لم يخطر بباله أنّها قد تملك شجاعة دخول المخيّم والقبض عليه من بين جماعته وحرسِه، وهو لم يعِ ما حصل إلّا بعد 48 ساعة، حين كانت المديرية قد بدّلت ملابسَه بما توافر، والتقَطت له الصورة التي نُشِرت في الإعلام لتبدأ التحقيقات معه، وهنا كانت المفاجآت.
اعترَف ياسين بالمعلومات التي كانت المديرية تملكها عن اتّصالاته بين عين الحلوة والرقة، عن الأشخاص الذين كان يتعامل معهم، عن مجموعات مجهولة، وعن معلومات يملكها عن عمليات داخل المخيّم أو خارجه، فاعترفَ بتوقيتها وأحيلَ إلى النيابة العامة، وحتى الآن هناك 15 مذكّرة توقيف بحقّه.
بعد اعتقال ياسين الذي يُعتبر خزّانَ معلومات كونه من أقدمِ القادة الإسلاميين الذين عايَشوا الفترة الممتدة من أبو محجن حتى اليوم، لا شكّ في أنّ مرحلة مواجهة التداعيات قد بدأت، وستُجابَه على ثلاثة أصعدة، من خلال: تفعيل الإجراءات العسكرية في محيط المخيّم، تعزيز الإجراءات الأمنية في مناطق قد تكون مستهدفة لإحباط أيّ عملية إرهابية، والتواصل مع القيادة الفلسطينية الرسمية ممثّلةً بحركة «فتح» للضغط في اتّجاه تحييد المخيّم عن تنفيذ عمليات إرهابية بعد عملية ياسين، التي بقدرِ ما خَدمت الجانب اللبناني خَدمت المخيّم بدوره.