في بيروت تبدو الصورة ضبابية وسوداوية وسط كلّ هذه التفاصيل المقلقة والحملات التي تزيد من التشنج السياسي الحاصل. أما في واشنطن فإنّ الصورة تبدو أكثر وضوحاً كونك ترى المشهد من بعيد من خلال عناوينه العريضة.
في لبنان اسئلة كثيرة لتطوّرات مبهمة تبقى الإجابة عليها صعبة وغير ممكنة: لماذا انفجار الوضع في هذه المرحلة بالذات؟ ولماذا إصرار المملكة العربية السعودية على الذهاب في إجراءاتها الى ما يشبه القطيعة شبه الكاملة؟
ولماذا المواجهة في لبنان فيما المرحلة هي مرحلة تثبيت وقف إطلاق النار في سوريا؟ إذا كانت عودة الرئيس سعد الحريري أوحت باستعادة زمام المبادرة لفريقه السياسي، فإنّ الاجراءات السعودية التي أعقبت عودته سببت أضراراً كبيرة لهذا المشروع، فوفق أيّ منطق حصل كلّ ذلك؟
ولماذا يندفع حزب الله في خطة التصعيد؟ وهل هذا يعني أنّ ثمّة مَن يحضّر الساحة اللبنانية لتغييرات جذرية ستصيبها في موازاة الورشة الكبرى التي تستعدّ لها المنطقة بدءاً من سوريا؟
الكلام السائد في لبنان من أنّ السعودية اعتذرت عن استقبال رئيس الحكومة تمام سلام بعدما قيل إنّ غضبها انفجر بعد صدور موقف سلام الذي غطى وزير الخارجية جبران باسيل.
وفي الكلام السائد أيضاً أنّ سلام قد يقدّم استقالته الأسبوع المقبل. وفي حال استمرت الأبواب موصدة في وجهه، خصوصاً بعدما بلغه أنّ الإجراءات السعودية ستطاول وقف الرحلات الجوّية المباشرة مع لبنان والتشدد في موضوع التحويلات المالية.
وتردّد في الأروقة الديبلوماسية أيضاً أنّ السعودية لم تتجاوب مع الطلب الأميركي بإعادة درس الإجراءات الموضوعة ضدّ لبنان، خصوصاً تلك التي تؤثر مباشرة في الاستقرارين المالي والأمني، علماً أنّ هذا الطلب مصدره وزير الخارجية الأميركي جون كيري.
وقيل إنّ الديبلوماسيين الذين لم يفهموا بعد الأبعاد الحقيقية للإجراءات السعودية، جاء مَن يشرح لهم أنّ المسألة تأتي في إطار الضغط المباشر على الحاضنة الشعبية لحزب الله الذي قاتل ولا يزال في سوريا ويتولّى مهمة الإشراف المباشر على قتال الحوثيين في اليمن ويتحرك بحرّية كاملة في دول الخليج وبالتالي، ووفق الشرح نفسه، فإنّ هذه الإجراءات ستصيب الحاضنة الشعبية الشيعية مباشرة، إضافة الى الفئات الأخرى المتحالفة مع حزب الله، وستشكل رسالة قاسية للذين يعتبرون أنفسهم حلفاء للسعودية ولكن من دون أن يكلفوا أنفسهم خوض مواجهة حقيقية ضدّ حزب الله.
وعلى المقلب الثاني، بدا حزب الله وكأنه بدأ بملاقاة التصعيد السعودي بتصعيد معاكس. قيل إنّ تفاهماً حصل مع الحوثيين بتوسيع رقعة قصفهم داخل الأراضي السعودية عندما تسمح الظروف الميدانية بذلك. والاستعداد في لبنان لمواجهة سياسية شرسة.
وقد يكون في حسابات هؤلاء أنّ الإجراءات السعودية في حال استكمالها ستعني حكماً خروج النفوذ السعودي نهائياً من لبنان، وأنّ حزب الله هو الوحيد القادر على ملء هذا الفراغ، وطبعاً من خلفه إيران.
وإنّ استقالة سلام ومعه الحكومة والتي تصبح شبه حتمية في ظروف كهذه، ستعني الدخول في مسار تفكك المؤسسات الدستورية اللبنانية وتحلّلها ومعه التوجّه حكماً في اتجاه المؤتمر التأسيسي مجدّداً بعدما فرضت المبادرات الرئاسية والحركة حول هذا الملف، إضافة الى الرفض الدولي، وضع هذه الفكرة جانباً والذهاب الى إعادة ترقيع النظام الحالي وخلال وصول رئيسٍ جديد للجمهورية كما أعلن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بنفسه.
هذه الصورة الملبّدة والمشحونة تبدو مختلفة في واشنطن. يقاطعك ديبلوماسيون أميركيون فوراً لدى طرح مسألة انزلاق لبنان في اتجاه مؤتمر تأسيسي بعد تفكك المؤسسات الدستورية اللبنانية قائلين: «… الآن، ووسط كلّ هذا التفاهم والورشة الدائرة في المنطقة؟ هذا غير واقعي البتة».
لا شكّ في أنّ الملف السوري يخطف الأضواء في واشنطن، وإرساء صورة جديدة للشرق الأوسط من خلال التعاون مع روسيا وإيران هو النقاش الذي يشغل الجميع ولا مكان لأيّ نقاش غيره أو تفصيل آخر.
الأسبوع الماضي كان حافلاً لوزير الخارجية جون كيري وفريق عمله المؤلف من جيش من المستشارين والخبراء. وأمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ أسهب كيري في حديثه عن الملف السوري لساعاتٍ عدة أصرّ خلالها على جدّية وقف إطلاق النار.
وعندما سأله أحد أعضاء اللجنة عن الخطة البديلة في حال سقوط وقف إطلاق النار وعودة المعارك الى الاشتعال، كان جوابه أنّ «من المفيد عدم الخوض بهذا الاحتمال لأنه سيكون مُكلِفاً جداً، أضف الى أنه قد لا يؤدي الى النتائج المرجوّة».
وأضاف ملمحاً الى أنّ هذا الخيار سيتطلب تدخلاً أميركياً مباشراً. وقال «إنّ الشق العسكري من هذه الخطة البديلة أكثر من 30 ألف جندي على الأرض ما قد يرفضه الكونغرس الأميركي».
لكنّ كيري أكد إقتناعه أنّ إيران ستتصرّف كشريك في المحافظة على استقرار المنطقة وهو الدور الذي باشرت بالاضطلاع به منذ إنجاز الاتفاق النووي، وأنّ روسيا لها أيضاً مصلحة في اختصار الوقت وترتيب الأمور قبل تفاقمها أكثر.
ولم ينسَ كيري طمأنة اللوبي اليهودي الفاعل عندما كشف أنّ بلاده نصبت في شمال اسرائيل منظومة رادار متطوّرة جداً تسمح برصد كلّ التحركات في المنطقة وأنّ الأفرقاء الأساسيين يعلمون بذلك. وهو قصد بكلامه روسيا ومن خلالها إيران.
بالتأكيد فإنّ تطمينات كيري تستند الى مسائل وتفاهمات ما تزال سرّية وغير معلنة حتى بالنسبة الى الأوروبيين.
وتكشف الاوساط الديبلوماسية في واشنطن أنّ العواصم الاوروبية أبلغت الى الإدارة الأميركية استياءها من عدم إطلاعها على تفاصيل الاتفاق الأميركي ـ الروسي حول وقف إطلاق النار في سوريا. وهذه الإشارة وحدها كافية لتأكيد وجود مشروع كامل وخريطة طريق لسوريا وللمنطقة انطلاقاً من سوريا ووفق الثنائية الأميركية ـ الروسية والتي تحتلّ فيها إيران موقعاً أساسياً.
طبعا هذا البرنامج يلحظ في محطة ليست ببعيدة، وتحديداً مع تحقيق التقدم المطلوب على مستوى التسوية السياسية في سوريا، فتح الملف الإسرائيلي ـ الفلسطيني والذي بوشر التحضير له. وجاءت أوّل نتيجة حسّية للزيارة التي قام بها وفد المنظمات اليهودية الى المنطقة بنحو سريع وانطلاقاً من مصر.
فلقد قدم السفير المصري حازم خيرات أوراق اعتماده منذ أيام الى الرئيس الاسرائيلي روفين ريفلين الذي ألغى زيارة له كانت مقرَّرة الى اوستراليا لهذه الغاية، ويستعدّ لزيارة قريبة الى موسكو للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مخصصة للشأن السعودي بعد التطورات الأخيرة.
واللافت أنّ السفير المصري الجديد لقي استقبالاً حاراً في إسرائيل، علماً أنّ مركز السفير بقي شاغراً منذ أكثر من ثلاث سنوات بسبب حرب غزة.
صحيحٌ أنْ لا وجود للبنان وسط كلّ هذه المشاريع الكبرى الجاري طرحها، لكنّ المنطق السياسي يقول إنّ لا بدّ من إنجاز التسوية الجانبية اللبنانية قبل الشروع في هذه الورشة الهائلة، لأنّ انفجارَ الوضع في لبنان وترك الأزمة السياسية مفتوحة وتفاقمها أمور ستزيد من تعقيدات الملفات الأُخرى في سوريا وفلسطين وستضعف من حظوظ نجاحها. ما يعني أنّ منطق حصول التسوية ليس من المفروض أن يتأخر كثيراً، ولو أنّ التطوّرات الدراماتيكية على الساحة اللبنانية تُنبئ بعكس ذلك.