بصعوبة بالغة يمكن تخيّل كيف يمكن للبنان أن ينجز انتخابات نيابية هذا الخريف، لكن أيضاً، التمديد للمجلس النيابي ليس ما يضمنه، مع أنه من الصعوبة البالغة كذلك الأمر تخيّل كيف يمكن أن تنتهي الولاية الدستورية الممددة للمجلس الحالي من دون تدبير من أي نوع. النظام السياسي اللبناني يراكم هشاشة بعد هشاشة، و«يخبّص» في المواقيت، وهو نجح على الرغم من ذلك لسنوات، في تفادي الانهيار الكارثي، وظلّ يصطنع لنفسه المخارج التي أقل ما يُقال فيها إنها متحايلة على مبرّر وجود دستور، ومبرّر قيام حياة سياسية. مع ذلك، ليس بالمستطاع الاطمئنان سلفاً عند كل مطب، بأن هذا النظام سينجح في العسرة الآنية التي هو واقع فيها.
وما يزيد الطين بلّة أن أوضاع الدولة ومرافقها الخدماتية والحيوية تزداد تدهوراً، ومسار التعطيل والتفريغ والتأجيل أخذ يضرب قطاع التربية بيمنى والكهرباء بيسرى، وكلّ ذلك فيما الشغور في الكرسي الرئاسي الأول لم يعد من النوع الذي يمكن الاستكانة بالقول إنها شدّة وتزول، أو إنها عراقيل وتتبدّد.
فإذا انضاف التحدي الإرهابي على كل هذا، صارت معاني السياسة في هذا البلد تضمحل من كل جانب. فإذا كانت السياسة هي فن الممكن صارت عندنا فن تبرير ما هو قائم حيناً، وفن المكابرة على ما هو قائم حيناً آخر.
وقد تزايدت في الآونة الأخيرة، كما درجت العادة، عشية كل استحقاق حربي «تستقبله» هذه المنطقة من العالم، الانتظارات من أن تحرّك الحملة العسكرية الدولية الإقليمية التي تقودها واشنطن ضد تنظيم «داعش» المياه الراكدة في لبنان أيضاً، وهذا رهان يتجدّد كل مرة بتبرير جديد، وبلباس آخر، ولكن: إذا كنا ندخل مع هذه الحملة في لحظة إقليمية جديدة، فإنّ التوازنين الكارثيين السوري واللبناني يبدوان عصيين على التبدّل.
التوازن الكارثي السوري هو بين نظام عجز عن قمع ثورة وهو عاجز عن الإتيان بأي إصلاح ولو جزئي لنفسه أصلاً، وثورة عجزت عن إسقاط نظام ولم تتخلل سيرورتها الداخلية منعطفاً انقلابياً أو انشقاقياً يمس تركيبة النظام الأساسية ما يعود في جزء أساسي منه الى انكماشه الفئوي وارتباطاته الإيرانية والروسية الداعمة بشكل سخي. النتيجة كانت تحلل المجتمع نفسه، واضمحلال معالم الوطنية الكيانية، وسط نزيف سكاني حاد، يطرح مشكلات أساسية لبلد مثل لبنان، وهي مشكلات لا يمكن اختزالها في باب «العنصرية ومكافحة العنصرية».
أما لبنانياً، فهو توازن كارثي بين فريق متغلّب بقوة السلاح، فشل مع ذلك في تحقيق الغلبة بشكل ناجز وشامل ومستقرّ، نظراً لعدم قدرته على تأمين شرطها، وهو تبني الكيانية اللبنانية ولو على طريقته، فاختار بدلاً من ذلك مساراً أوصله للتورّط الاستنزافي في الحرب السورية. ويقابله فريق لم تتمكن لا كثرة أخطائه السياسية ولا التغلب عليه بسلاح الخصم من أن تجعله يخسر ما هو أساسي من وجوده السياسي وموقعه، ولو أن المشروع الاستقلالي الذي كان يطرحه بحاجة الى نفضة «حرزانة».
هذا التوازن كارثي، لكن ليس على الطريقة السورية. إذ إنه لم يتطور الى حرب أهلية، ربما لأن لبنان عرف واحدة مزمنة قبل عقدين ونصف عقد، إنما يتطور بشكل يضرب «السوية الذهنية» التي تقوم عليها التركيبة السياسية والمجتمعية اللبنانية. بين الجد والمزح، يعتاد اللبنانيون مع مرور الأعوام، على وصف كل ما يتعلق بالحياة السياسية في بلدهم بأنه «حفلات جنون». وهل ثمة ما يقلّ جنوناً عن هذا المناخ الذي تتراكم فيه التعطيلات والفراغات، كما لو أننا في مصنع تتوقف محرّكاته وآلاته تباعاً، في وقت يطمئن مدراؤه بأن كل شيء سيتم انقاذه في ربع الساعة الأخير؟ مشكلة الطلاب حلّت بـ«الإفادات»، فأي إفادات يمكنها ان تحلّ مشكلة الرئاسة، ومشكلة مجلس النواب؟ هذا الإيمان الزائد بأن ثمة مخرجاً في ربع الساعة الأخير هو إيمان خطر، لا يقل سوءاً عن الندب والنكد، بل إنه يحثّ عليهما، ويستقوي بهما.