45 عاماً على إخفاء الإمام الصدر… عودة إلى مسرح الجريمة (3 من 4)
أثمرت وساطة الرئيس الجزائري هواري بومدين بين الرئيس الليبي معمّر القذّافي والإمام موسى الصدر. بعد عودة الإمام إلى بيروت وصلته الدعوة الرسمية من السفارة الليبية في لبنان لزيارة ليبيا. لم يخطر في باله أنّها دعوة إلى جريمة في عرس مناسبة احتفالات «الفاتح من سبتمبر»، أول أيلول، التي يقيمها النظام الليبي كل عام في ذكرى انتصار «الثورة» ووصول القذافي إلى الحكم. عندما يضمن رئيس دولة اللقاء وعندما تأتي الدعوة من رئيس دولة فهل يبقى أيّ داعٍ للخوف؟ ولكن كان بإمكان القذّافي أن يفعل ما لا يمكن أن يتصوّره عقل أو عاقل.
كان الزمن شهر رمضان المبارك. زمن صوم وإفطارات. ولكنّه في ليبيا كان زمن احتفالات. تزامن يوم العيد مع يوم الإحتفال الليبي في أول أيلول. وكان في حساب الإمام موسى الصدر أن يزور ليبيا وأن يكون خارجها قبل العيد، معتقداً أنّه سيجتمع مع القذافي ويقول ما لديه ثم يغادر. ولكن سيناريو القذافي كان مختلفاً.
عندما تكون الدعوة رسمية فلا بد من أن تكون الزيارة رسمية وأن يكون الإستقبال رسمياً خصوصاً أنّها ليست لشخص عادي بل لرئيس طائفة، وليست كبقية الدعوات التي تشمل الكثيرين للمشاركة في الإحتفالات، لأنها تتضمّن، كما هو متفق عليه، دعوة للقاء مع القذافي، ولكن حسابات الإمام لم تكن كحسابات الداعي.
حقيبة سفر الإمام
خلال تلك الفترة كانت عائلة الإمام خارج لبنان وكانت زوجته مريضة وتُعالج في باريس. لذلك، وبسبب ظروف الحرب، كان الإمام يقيم في منزل شقيقته السيدة رباب الصدر شرف الدين في كيفون في منطقة عاليه. أطلع الإمام شقيقته على خبر الدعوة ولكنّها كانت خائفة من تلبيتها. طلب منها أن تعدّ له حقيبته. سألته عن المدّة التي سيغيبها وعن عدد الأيام التي سيبقى فيها في ليبيا. قال لها: «ان شاء الله خمسة أيام مش أكثر». ولكنّه أضاف: «ربّما قد لا أتمكّن من العودة بحسب التوقيت الذي أريده. وقد تطول السفرة». وضعت السيدة رباب في الحقيبة بعض الثياب الداخلية والخارجية تكفي لعدّة ايام. بالإضافة إلى مثل هذه الحقيبة كان السيّد يحمل معه حقيبة سامسونايت يضع فيها القرآن الكريم وكتاب «دعاء مفاتيح الجنان» وأوراقه الخاصة. كان ذلك في 24 آب.
لقاء في مدينة الزهراء
في 25 آب، اليوم المقرّر لسفره إلى ليبيا استدعى الإمام أعضاء في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وفي المكتب السياسي لحركة «أمل» للقاء معه في مبنى مدينة الزهراء في خلده، الذي اعتمده كمقرٍّ ثانٍ موقّت بديل لمقرّ المجلس الأساسي في الحازمية، وقد حضرت السيدة رباب هذا اللقاء الذي لم يكن عادياً. كانت الدعوات باسمه واسمي رفيقيه الشيخ محمد يعقوب، والصحافي عباس بدر الدين صاحب وكالة «أخبار اليوم». كان قرار السفر قد اتّخذ وتمّ استلام الدعوات مع بطاقات السفر المقدمة من السفارة باعتبار أنهم ضيوف.
اتصل أمين سر الإمام عبدالله موسى بالدكتور حسين يتيم عضو المكتب السياسي وقال له: «الإمام موجود هنا وهو يريد أن يجتمع معكم. أتته دعوة إلى ليبيا وهو يريد أن تذهبوا معه». فوراً قفزت الهواجس إلى أفكار الدكتور يتيم. «شو عم تقول يا عبدالله؟» رد بشكل سريع وتلقائي. وأضاف: «هل يعقل أن يذهب الإمام إلى ليبيا؟ هل يعقل أن يأخذنا معه؟ هل هو واثق من أنه يستطيع أن يذهب وأن يعود حياً؟». قال له عبدالله: «والله تأتون وتحكون معه».
كان الدكتور يتيم مطّلعاً على التوتر الحاصل بين الإمام وحركة «أمل» والشيعة في لبنان بشكل عام، وبين العقيد معمر القذافي. ولذلك فوجئ برغبته بزيارة ليبيا وبدعوته لاصطحابهم معه. فقد سبق للقذافي أن هاجم الإمام والطائفة الشيعية ووصفهم بأنّهم من الخوارج، وكان يدعو المسيحيين في لبنان إلى الدخول في الإسلام ويدعم فصائل في الحركة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية ويمدّهم بالمال والسلاح لمتابعة الحرب والقتال. وكان الإمام الصدر قد رفض السير بخيارات القذافي، وبات ينشط من أجل إنهاء الحرب بعد الإجتياح الإسرائيلي المحدود عام 1978.
كان الصحافي عباس بدر الدين اتخذ مكتباً موقتاً له ولوكالته الإخبارية في مبنى تربوي يملكه الدكتور يتيم. قال يتيم لبدر الدين: «تفضل إلحقني إلى مدينة الزهراء. الإمام بدّو ياك حتى تروح معو على ليبيا». ردّ بدر الدين بطريقة عفوية: «يا تعتيري بعدنا جايين من الجزائر بدّو ياخدنا معو على ليبيا؟ هل هو ضامن عودته من هناك؟». قال له يتيم: «لا أعرف. أنا لا أضمن أنّه يمكن أن يعود. وأنا لن أذهب». طلب منه بدر الدين: «احكيلي معو». قال له يتيم: ذاهبون إليه وكل منّا يحكي عن حاله».
توجّه يتيم إلى مدينة الزهراء في خلده. وصعد إلى الطابق الثالث حيث مكتب الإمام وصالون الإستقبالات وانضمّ إلى الإجتماع. كان السيد موسى والشيخ محمد يعقوب وعدد من الذين وصلوا ومن بينهم الدكتور حسين كنعان الذي كان يجلس إلى مكتب وراء الإمام وكان وجهه عابساً وحزيناً. حيّا يتيم الإمام وصافحه وعانقه ثم حيّا الحاضرين. وقال مخاطباً الإمام: «قبل الجلوس أريد أن أتكلّم». ولكن الإمام قال له: «أعرف أنك ضدّ زيارتي إلى ليبيا. لقد أبلغني عبدالله موسى بما قلته له». ردّ يتيم: «أنا ضدّ الزيارة وأحذّرك. هذا الرجل (القذافي) الذي كان يقول عنك إنّك إمام الخوارج في لبنان والعالم العربي وإنّ الشيعة هم طائفة الخوارج وحركة «أمل» خوارج، كيف سيستقبلك بهذه السهولة كقديس أو كإمام مسلم؟». قال له الإمام: «هناك كفالة من الرئيس هواري بومدين الذي عمل الوساطة». وفتح رسالة الدعوة الليبية الرسمية وأطلع الحاضرين عليها. قال له يتيم: «هذه الدعوة لا قيمة لها عندي. نحن نعرف تاريخ هذا الرجل (القذافي) ولذلك لا يمكن أن نأمن له. هذا أمر رهيب. أحذّرك من جديد وأتمنى عليك عدم الذهاب، ما تروح، وأنا من جهتي لن أذهب وأدعو الآخرين لعدم الذهاب».
ليلة العيد أكون معكم
بعد مشادة كلامية بينه وبين الشيخ محمد يعقوب، قال يتيم للإمام: «أستودعك الله» وخرج من الإجتماع. التقى على الدرج عباس بدر الدين طالعاً ومتوجهاً إلى مكان الإجتماع وحاملاً حقيبته وبيده جواز السفر. سأله بدر الدين: «هل توصّلت معه إلى نتيجة؟». قال له يتيم: «أبداً. هناك قناعة لديه بأنّ بومدين ضامن اللقاء مع القذافي الذي لا يمكن أن يؤذيه مهما كان مجرماً. حاول أن تقنعه أنت». قال بدر الدين عندها: «لا حول ولا قوة إلا بالله». انصرف يتيم ودخل بدر الدين ولم يتبدّل قرار الإمام. كانت زوجته السيدة زهرة، الخارجة حديثاً من المستشفى، تعدّ له الحقيبة. سألته عن المدّة التي سيغيبها فقال لها بدر الدين: «ليس أكثر من خمسة أيام. ليلة العيد سأكون معكم. وإذا قرّر الإمام أن يسافر من ليبيا إلى بلد آخر، أو أن يمدّد إقامته في ليبيا، أنا سأكون معكم». ولكنه منذ ذلك التاريخ لم يعد هو ولا عاد الإمام ولا الشيخ محمد يعقوب. كان الشيخ محمد يعقوب بمثابة الرفيق الدائم للإمام وخزّان أسراره ومن أقرب المقربين إليه. ولذلك اختاره أن يكون معه في ليبيا وهو كان سبق له أن زارها أكثر من مرة منذ بداية الحرب ودُعي مرّة لحضور احتفالات «الفاتح من سبتمبر».
ولكنّ العلاقة مع النظام الليبي عادت وتدهورت بفعل امتناع الإمام الصدر عن تلبية رغبات القذافي التي صارت تتناقض مع تطلعاته ونظرته لمشاركة الطائفة الشيعية في الأحداث. يعقوب كان أيضاً متردّداً ومتخوّفاً من الزيارة ولكنّه كان إلى جانب الإمام في زيارته إلى الجزائر التي التقى فيها بومدين الذي توسّط له لزيارة القذافي. لذلك كان الوفد مشكلاً في النهاية بصورة حصرية من السيد موسى والشيخ يعقوب وبدر الدين الذي كانت مهمته متابعة أخبار الزيارة وتوزيعها.
وصل الإمام ولم يُوزَّع الخبر
حتى خبر وصول الإمام ورفيقيه إلى طرابلس الغرب لم يوزّع. صحيح أنّه غادر لبنان بمواكبة من السفارة الليبية ولكنّه منذ ذلك التاريخ انقطعت أخباره. المعلومات التي توفّرت عن الأيام التي قضاها في ليبيا بين 25 و31 آب قليلة ولكنّها مفيدة وكافية لرسم صورة المصير الذي لقيه الإمام. هناك لم يكن لوحده. كانت وفود كثيرة من أحزاب وتيّارات وصحف دعيت لحضور احتفالات القذافي وثورته اختلط فيها الأبيض بالأسود. وحده الإمام كان ينتظر أن يغادر قبل أن يحين موعد الأول من أيلول ولكن قبل يوم واحد بدأت رحلة الغياب والمصير المجهول، المعلوم.
يتبع الحلقة الرابعة والأخيرة
السبت 9 أيلول:
أيام الإمام في ليبيا