تأتي الذكرى السنوية الحادية والأربعون والإمام القائد السيد موسى الصدر يتألق حضوراً رغم قيد سجّانيه من الطاغية القذافي المجرم الى كل الأيادي التي تماطل اهمالاً، رغم أنّ العديد من المسؤولين الليبيين الحاليين لاقوا أنواع ظلم النظام البائد، وبين هذا وذاك يبقى الامام الصدر محطَّ آمال المتطلّعين لغد واعد على المستوى الوطني والعربي ولجميع الأحرار في العالم، سواء كان في طروحاته لحل كل المعضلات التي تجمد الدماء في عروق عملية النهوض الوطني ومنها أزمة النظام أو أزمة الحكم، وكأنّ قدر لبنان أن يكون نظامه قيد الإنجاز من مراحل تأسيسه ومن الجنرال غورو حتى اليوم …
لقد قيل الكثير عن الدستور والميثاق وثالثة الأثافي الصيغة فيما يعترف فقهاء القانون الدستوري وأهل الخبرة السياسية بعمق الأزمة، فجاء التوصيف على وقع الممارسة والتطبيق لحكم الوطن والمواطن ليصطدم المواطن بأنّ طبيعة النظام لا تخوّله أن يكون مواطناً بكامل الحقوق انما عليه الواجبات، فلبنان تشكّل من فسيفساء مذهبية من سبع عشرة طائفة إضافة الى الأثنيات، وصفه الدكتور محمد المجذوب بأنه غريب عجيب ووحيد فريد مدهش مذهل يستعصي على كل تصنيف ويتمرّد على كل تحليل، لينبري المفكر جورج نقاش بأنّ سلبيّتين لا تبنيان وطناً في ظلّ نظام اقتصادي وصفته بعثة «ارفد» برئاسة الأب لوبريه في أوائل الستينات بأنه فريد ويبتعد عن كل القواعد والنظريات الاقتصادية، كأنّ بعض الناس يعيش في زمن النبي ابراهيم وآخرون بمستوى أكثر المجتمعات رخاءً.
في هذه الأجواء وفي خضم تلك الظروف وصل الإمام السيد موسى الصدر الى لبنان، قاد المحرومين من جميع الطوائف نحو الاصلاح مطالباً بإزالة الحرمان في الأطراف وأحزمة البؤس ومواجهة العدوان الصهيوني على لبنان، على قواعد حاكمة على مستقبل لبنان، إذا ما تمّ تطبيقُها، من أنّ الطوائف في لبنان نعمة تجعل من هذا البلد المختبر الحضاري ليس على المستوى الداخلي انما على مستوى العالم، وكذلك إنهاء المعركة الداخلية في لبنان أفضل وجوه الحرب مع اسرائيل، لا سيما وأنّ الأحداث أثبتت أنّ الحروب الداخلية كانت أداة الحرب الناعمة التي من شأنها إنهاء البلاد والعباد في عملية التآكل الداخلي الذي هو أكبر فتكاً في تحطيم الآلة العسكرية، لأنّ الحروب الغبية أخطر بكثير من القنابل الذكية فقد تستفيض والوطن يلفظ آخر انفاس الحياة.
إنّ رؤية الامام السيد موسى الصدر جاءت منذ وصوله الى لبنان خلفاً للإمام السيد عبد الحسين شرف الدين شاهراً سلاح العيش الواحد بردم الهوّة مع الآخر الذي هو قدر لبنان، بل رسالة العاملين في سبيل الله ومن أجل الإنسان.
*ورقة عمل المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى 11 أيار1977 مثال يقتدى به من نافلة القول إنّ هذه الورقة شكلت مرتكزاً اصلاحياً ومطلبياً يكمن فيهما الحل الثابت لأزمة لبنان، وكانت من مرتكزات اتفاق الطائف فيها الإيمان بلبنان الواحد كوطن نهائي بحدوده الحاضرة سيداً حراً، واللافت أنّ التركيز على إبعاد شبح عناصر وأساس التوترات التاريخية التي وضعت لبنان أمام اختلالات مستمرة طالما أدّت الى صراعات ونزاعات داخلية حتى الاقتتال، وجاء في الفصل الثاني من الورقة: ما لا يمكن القبول به إذا جرت العادة في إدراج البنود المطلبية ولكن الامام أكد على مسألة قد لا تكون مألوفة عند البعض فيما لا يمكن القبول به، يمكن ايجازه بخمسة موضوعات:
- رفض التقسيم رفضاً باتاً ولو تحت ستار اللامركزية السياسية مرحِّباً بأية صيغة للّامركزية الادارية.
- رفض توطين الفلسطينيين مع التأكيد على الالتزام بالعمل لاستعادة الشعب الفلسطيني حقه في وطنه، واليوم نشهد أن التوطين أحد آليات صفقة القرن التي تسوّق لها الإدارة الاميركية لإنهاء وتصفية القضية الفلسطينية.
- لا يمكن القبول بتشويه وجه لبنان الحضاري بتحطيم دوره العربي والدولي تفادياً لفقدان دور لبنان المميّز كرسالة حضارية.
- رفض تحجير الصيغة اللبنانية كي لا يبقى عامل الخوف والقلق على المصير عند البعض ذريعة للمحافظة على امتيازات فئوية بينما يبقى عامل الغبن عند البعض الآخر باباً للنزاع، والسلبيّتان لا تبينان وطناً باعتراف الجميع.
- رفض أية تسوية بين الفرقاء على حساب الوطن ولو موقتة لأنّ التحديث ينبغي أن يكون جذرياً بتخطيط شامل لتحديث الدولة في جميع مرافقها تحديثاً جذرياً، لأنّ استئثار البعض بوضع اليد على مرافق محددة في الدولة ولو موقتاً يعني حراسة الأزمة وإعادة عجلة الاستقرار الى الخلف.
وخلاصة القول إنّ الإمام السيد موسى الصدر كان في رؤيته الاصلاحية المبكرة يحرص على الاستقرار وتحصين لبنان في أصعب المراحل والتي لم تعد احتمالاً، بل نحن فيها، من هنا كان تأكيد رئيس المجلس النيابي رئيس حركة «أمل» الأخ نبيه بـري على أن يكون الحوار شاملاً فالتجارب خير معلم لنا، ان جميع الحوارات الثنائية والتحالفات الثنائية لم تشكل شبكة أمان لخلاص لبنان من أزماته، بل كانت معبراً تؤسس لأزمات، فإنّ أيّ حوار لا يأخذ بعين الاعتبار مكوّنات البلد هو بمثابة الحل العابر الذي يؤجل الأزمة.
وإنّ إظهار الخصوصية على حساب الآخر هو أمّ الأزمات التي تضعف منعة لبنان بتهديد الوطن والمواطن ولا يشكّل رافعة لعملية النهوض الوطني، بل هو تجاوز للدستور لتحلّ المحسوبيات على حساب الكفاءات كما شهدنا في شلّ يد مجلس الخدمة المدنية دون أيّ مبرّر قانوني أو دستوري.
إن الامام الصدر شاء لنا أن نكون مواطنين ولكن مع الأسف فإنّ ممارسات اليوم تقول للمواطن العادي إنك لا تستطيع أن تكون مواطناً تحت حماية الدستور والقانون لذا فإن الإمام الصدر يحضرنا في عزّ أزماتنا في ابعاده الرؤيوية، فهل يعود البعض اليه ويصح ما يردد البعض «ليتني عشت في فترة كان فيها الإمام في لبنان…»
ليس من السهل التنبُّؤ ولكن من الممكن أن نعود جميعاً الى حوار شامل على قواعد أرساها الإمام الصدر.