عجبتُ لكثرة ما يُطرح عليّ من أسئلةٍ تافهةٍ، عن سبب الرجوع إلى الإمام علي بن أبي طالب في غيـر مجالٍ من مجالات الإستشهاد والإستدلال.
حتّى إنّ بعضهم يأخذ عليّ هذا النوع من «الغباء» بل هذه المبالغة في الإنحياز المذهبي.
لهؤلاء: من أنصاف العقول أقول: لـوْ كانت لهمْ قدرة الإستيعاب الفكري وتعمّقوا في «نهج» الإمـام وسيرتهِ ومسيرته، وما كان عليه من الخصائص المفاخر: في الحكم والحكمة والعدل والصفح والخـلُقِ والزهد والتسامح والرفق والعلـم والتقوى، إلى ما سـنَّ من إصلاحٍ سياسي واجتماعي لأصبحوا «أغبياء» مثلي.
بـل ، كانوا «أغبياء» كمثل كوكبةٍ مسيحية ساطعة من أعلام الأقلام: جبران خليل جبران، مخايل نعيمه، أمين الريحاني، جرجي زيدان، أمين نخله، بولس سلامة، سعيد عقـل، فؤاد إفرام البستاني، أدمون رزق، إلى جانب طليعةٍ من المحدثين في مجال التأليف الملحمي والأدبي: سليمان كتاني، نصري سلهب، جورج جرداق ، جورج شكور، ميشال كعدي، جورج زكي الحاج، والسلسلة تطول.
في إحدى محاضراتي عن الإمام إستجمعتُ بعضاً من جلائل الأقوال والمآثـر العلويّات بما هي ارتفاعٌ عن غرائز الأرضيّات إلى سمـوّ السماويات، فإذا هي تتلاقى مع أقوال المسيح وعِظاته، وقد رُوي عن النبيّ قولُـهُ للإمام علي: «إنَّ فيكَ مثلاً من عيسى، أحبَّـهُ قـومٌ حتى هلكوا في حبِّـهِ وأبغضَـهُ قـومٌ حتى هلكوا في بغضهِ»(١)…
مشكلة الجاهليّيـن والطائفيّين وحماقةِ المثقّفين ومعظم السياسيين عندنا، في أنّهم يخرجون من التاريخ فيُخرجهم التاريخ من الحضارة، وإنّ بينهم وبين الثقافة والمعرفة والكتاب جفـاءً وعـداء، فهم لا يقرأون، فإنْ قرأوا لا يفهمون. إبـن سينا يقول: إنّـه قـرأ أربعين مـرّة كتاب: «ما بعد الطبيعة» للفيلسوف أرسطو مِـنْ غير أن يفهمه، وبعد أن قـرأ تعليق الفارابي عليه، استطاع أن يُدرك معناه ففرح فرحـاً عظيماً وخـرج إلى الشارع يـوزّع الصدَقات على الناس.
في زمـنٍ يتلاطم فيه المجتمع الإنساني مع أقسى فواجع التوحُّش، وتنهارُ قيَـمُ الذات في أعماق اللاّوعي، حيث التنابذ والتباغض والتقاتل، والتحاور بلغة الحديد والنار، وحيث الظلم والعنف والقهر والفساد والكفر والتعصّب والفتنـة التي هي «أشـدُّ من القتل».
في هذا الزمـن أحوج ما تكون الإنسانية المعذّبة إلى استلهام الصالحين والمصلحين من أهـل الفكر، وإلى المتنوّرين من أهـل المذاهب السماوية والدين.
الذين، لا يطيب لهم إعجابُنا بالإمـام علي ، لماذا لا يقرأونه: لماذا لا يقـرأ الحكام والمسؤولون والسياسيون كتاب الإمـام إلى «الأشتـر» والـي مصـر، وهو أروع برنامج حكم وبيانٍ وزاري…؟
لماذا لا يقرأ القضاة كتابه إلى قاضيه «شريح بن الحارث»…؟
وهل يقرأ القادة العسكريون كتابه إلى أمراء جيشه في مجال إنسانية السيف…؟
هـل يقرأ الوالدون والبنون والمربّون وصيّـة الإمـام إلى الحسن والحسين…؟
هـل يقرأ الأغنياء والمتخمون دعوتَـهُ إلى مساعدة الطبقة السفلى وأهـل البؤسى والمساكين والمحتاجين…؟
وهل يقرأُه رجال الديـن سفراءُ اللـه على الأرض لتكون الحقائب الدبلوماسية غير مفخَّخةٍ بالكراهية والتعصّب.
إقرأوا… لعلّكم تصبحون «أغبياء» مثلنا، لأنّ الجهل والاَّعقل هما سبب بـلاء الإنسان وانهيار الأوطان.
1 – «إن فيك مثلاً من عيسى»: فضائل الصحابة – الجزء: 2 – ص: 575.