45 عاماً على إخفاء الإمام الصدر… عودة إلى مسرح الجريمة (4 من 4)
طار الإمام موسى الصدر مع رفيقيه من مطار بيروت إلى مطار طرابلس الغرب. على متن الطائرة ربما كان هناك مدعوّون آخرون لحضور احتفالات «الفاتح من سبتمبر». لم تكن زيارة الإمام بهذا الهدف بل للقاء سياسي مع الزعيم الليبي معمر القذافي. فالدعوة التي تلقّاها لم تكن عادية كسائر الدعوات الأخرى. كان من المفترض أن يكون هناك من يستقبله بشكل رسمي ولكنّه وجد نفسه وحيداً على أرض المطار لينتقل من هناك إلى حيث تحدّدت إقامته في فندق الشاطئ. هناك سيعيش الإمام موسى الصدر ستة أيام بانتظار موعد مع القذافي.
السفير اللبناني في ليبيا نزار فرحات فوجئ يوم الإثنين 28 آب بوجود الإمام هناك. صباح ذلك اليوم حضر إلى مقرّ السفارة الصحافي عباس بدر الدين مع بشارة مرهج ومنح الصلح لإجراء بعض المعاملات الرسمية. وكان بدر الدين يريد وضع تأشيرة سفر إلى فرنسا على جوازه. وعلم فرحات منه أنّه موجود في ليبيا مع الإمام الصدر والشيخ محمد يعقوب في زيارة رسمية للقاء القذافي. سأله فرحات عن سبب عدم إبلاغه مسبقاً بقدومهم فقال له إن الظروف شاءت أن تكون الزيارة سريعة. بعد انصراف مرهج والصلح لإتمام معاملاتهما بقي بدر الدين في مكتب السفير ومن هناك أجرى السفير فرحات اتصالاً مع الإمام الصدر واتفقا على الإلتقاء مساء ذلك اليوم.
لقاء السفير والإمام
في الموعد المحدّد توجّه السفير إلى فندق الشاطئ والتقى الإمام. كان عنده، بالإضافة إلى الشيخ محمد يعقوب، أسعد المقدّم الصحافي في جريدة «السفير» اللبنانية التي موّل صدورها القذافي، وكان من ضمن الوفد الذي رافق رئيس تحريرها طلال سلمان لعقد لقاء حوار فكري وسياسي مع القذافي حول كتابه «الأخضر» ولحضور احتفالات «الفاتح من سبتمبر» وكان مرهج والصلح من ضمن هذا الوفد.
بعد انصراف يعقوب والمقدّم سأل السفير الإمام عن سبب عدم إطلاعه مسبقاً على الزيارة فأبدى الإمام أسفه لعدم إبلاغه وزارة الخارجية بها وقال إنه كان يعتقد أنها ستكون زيارة سريعة وخاطفة. وكشف له أنّه يريد أن يغادر إلى فرنسا بسبب أمور عائلية طارئة تتعلق بحالة زوجته الصحية. ولهذا السبب طلب من عباس بدر الدين وضع تأشيرة دخول إلى باريس على جواز سفره لأنّ الإمام والشيخ يعقوب كانا وضعا هذه التأشيرة سابقاً.
سأل السفير الإمام: «هل ستبقى لحضور الإحتفالات؟». قال له الإمام: «انشالله لأ. إن تمّت المقابلة (مع القذافي) سأسافر بعدها. وإن أبلغوني بتعذّرها سأغادر فوراً». في نهاية اللقاء اتفق الإمام والسفير على أن يقيم مأدبة إفطار على شرفه مساء الأربعاء 30 آب. في اليوم التالي أي في 29 آب التقيا مجدّداً وتحدّثا حول ظروف الدعوة الموجّهة للإمام وعرضا للأوضاع العامة وللهدف الذي جاء من أجله إلى ليبيا.
مساء الأربعاء حضر الإمام مع الشيخ محمد يعقوب وعباس بدر الدين إلى الإفطار الذي شارك فيه بشارة مرهج ومنح الصلح. كان الإمام قلقاً. وعندما سأله السفير عن السبب قال إنّه قلق على وضع عائلته وزوجته في باريس. ولكن كان لذلك القلق سبب آخر أخطر وأهم يتعلّق باكتشاف الإمام أنّه ربما قد يكون وقع في مصيدة القذافي نتيجة المماطلة في تحديد موعد له معه وعدم استقباله رسمياً وتجاهل وجوده هناك.
إفطار وقلق
بدأ الإفطار نحو الساعة الثامنة مساء. ولكن قبل أن ينتهي قرر الإمام المغادرة. طلب سيارة تاكسي بواسطة أحد العاملين في السفارة، من دون إبلاغ السفير بذلك. عندما حضرت السيارة قال إنه ذاهب إلى الفندق وطلب من الحاضرين البقاء. لكن الشيخ يعقوب وبدر الدين أصرّا على مرافقته. واتفق مع السفير، وهو يودّعه، على التواصل واللقاء.
كان السفير قد قال للإمام في لقائهما الأول إنه يفضّل أن يقيم عنده في دار السكن الخاص به إذا كان منزعجاً من الإقامة في الفندق. ولكن الإمام اعتذر وقال إنه يفضّل أن يبقى في الفندق «لأنهم إذا حضروا لأخذنا إلى المقابلة الرسمية قد يتعذّر عليهم إيجادنا أو الذهاب إلى دار السكن». قال له السفير: «دار السكن ليست بعيدة عن الفندق وبإمكانهم المجيء». إلا أن الإمام أصرّ على البقاء في الفندق. وكانت تلك المرة الأخيرة التي يرى فيها السفير الإمام وهو يودّعه بعد الإفطار.
أين ذهب الإمام؟
في 31 آب 1978 أنهى السفير أعماله الروتينية في السفارة وانطلق إلى فندق الشاطئ للقاء الإمام. وصل نحو الساعة الواحدة والنصف ظهراً. ولكنّه لم يجده هناك. سأل عنه بعض من التقاهم فنفوا علمهم بمكان وجوده ولكنّه علم من الذين سألهم ويعرفهم ومن الموظفين أنّه «كان هنا منذ دقائق وغادر الفندق مع رفيقيه على عجل وكأنهم ذاهبون إلى لقاء رسمي ربطاً بطريقة خروجهم وبلباسهم».
عندما يئس من الحصول على جواب غادر الفندق نحو الساعة الثانية والربع. وهو في طريقه للخروج من الفندق التقى بشارة مرهج. كان جواز سفر عباس بدر الدين لا يزال معه يحمله في جيبه وكان يريد أن يسلّمه له. فربما اضطرّتهم العجلة إلى المغادرة وربّما كان بدر الدين بحاجة إلى جواز سفره. سأل مرهج إذا كان بإمكانه أن يترك معه جواز السفر فلم يمانع. فترك معه الجواز. عاد السفير إلى السفارة فأبلغه موظف فيها بأن عباس بدر الدين اتصل الساعة الواحدة والنصف تقريباً يسأل عنه. سأله السفير إذا كان طلب شيئاً محدّداً فنفى الموظف: «قال إنه سيتّصل لاحقاً».
في المساء عاد السفير إلى الفندق وكان معه سائق السيارة حاملاً سلّة فاكهة ليقدّمها للإمام. ولكنّه لم يجده هناك، لا هو ولا رفيقيه. انتظر في بهو الإستقبال نحو ساعتين. لكنّهم لم يحضروا. وسأل عنهم ولكن أيضاً لم يقل أحد ممّن سألهم أنّه شاهدهم يعودون إلى الفندق. صعد السفير فرحات إلى الطابق الذي كانت فيه غرفة الإمام. طرق على باب غرفة الإمام فلم يرد أحد. انتظر ثم طرق على باب غرفة الشيخ محمد يعقوب أيضا لم يرد أحد. غادر الفندق خائباً وقلقاً.
مساء اليوم التالي أول أيلول يوم الإحتفالات عاد إلى الفندق. وأعاد البحث والسؤال من الإستقبال إلى الغرف ولم يجدهم ولم يحصل على جواب. لم يره أحد بعد الساعة الواحدة والنصف من تاريخ 31 آب. قال لعلّ المقابلات التي أتوا من أجلها كانت خارج طرابلس العاصمة ولعلّهم لم يعودوا إلى الفندق. لذلك قصد في 2 أيلول المطار ربّما يجدهم هناك قبل سفرهم. ولكنّه لم يجدهم. بحث في قاعات الشرف والصالونات ولم يجدهم.
التقى بعض اللبنانيين المغادرين ومن بينهم منح الصلح ولكنّه لم يكن يعلم شيئاً عنهم. آخر مرّة شوهد فيها الإمام ورفيقاه كانت الساعة الواحدة والنصف ظهر 31 آب يركبون سيارات المراسم للذهاب إلى مقابلات رسمية. بعد انتشار خبر اختفاء الإمام ورفيقيه في ليبيا سأل السفير فرحات بشارة مرهج عن جواز سفر بدر الدين فقال له إنه بحث عنه ولم يجده ولذلك وضعه في العلبة الخاصة بغرفته في الفندق.
موعد جريدة «السفير»
كان موعد الإمام مع القذافي ولكنّ المقابلة خصّصها القذافي لوفد جريدة «السفير». كان بشارة مرهج من ضمن ذلك الوفد الذي كان يقيم أيضاً في فندق الشاطئ. وهناك تفاجأ طلال سلمان بوجود الإمام. فقد جرت العادة أن يدعو القذافي إلى احتفالات «الفاتح من سبتمبر» شخصيات من كل الألوان والأشكال. تلقى طلال سلمان دعوة للحضور وأراد أن يحوّلها إلى مناسبة مهنية لإجراء حديث شامل مع القذافي. المقابلة التي استمرّت نحو أربع ساعات مع القذافي، كانت في 31 آب، اليوم الذي اختفى فيه الإمام ورفيقاه بعدما أُوهِموا أنهم ينتقلون بسيارات رسمية إلى اللقاء المنتظر مع القذافي.
الإمام يسأل سلمان عن القذافي
بالصدفة علم سلمان بوجود الإمام الصدر في ليبيا، وبأنه نازل في الفندق نفسه معهم. لذلك استغرب سلمان العارف بالعلاقات السياسية وبوجود خلافات بين الإمام والقذافي، وجود الإمام هناك. فلا شيء يجمعه مع القذافي لا فكرياً ولا سياسياً. وبالتالي تساءل عمّا يمكن أن يحصل بين الإمام والزعيم الليبي.
مساء 30 آب استقبل الإمام في الفندق، سلمان مع عدد من الذين كانوا يرافقونه. امتدّ اللقاء نحو ساعتين ونصف. سألهم الإمام عن شخصية القذافي باعتبار أنّ سلمان وعدداً من الحاضرين كان التقى الزعيم الليبي. قبل المغادرة سألوا الإمام عن الوقت الذي سيبقى فيه في ليبيا. قال الإمام إنه حريص على أن يترك ليبيا قبل الإحتفالات. وإنه لا يريد أن يكون على المنصة بينما القذافي يخطب وهو لا يعرف ماذا سيقول ومن سيهاجم في ظل علاقاته المتوترة مع أكثر من دولة عربية وزعيم عربي.
سأل سلمان الإمام عن موعده مع القذافي فقال له إنه ينتظر أن يحددوا له هذا الموعد. غادر سلمان والوفد ولم يحصل إي لقاء آخر مع السيّد. في اليوم التالي لهذا اللقاء، بعد الظهر بقليل، شاهد سلمان عباس بدر الدين يتجّه مسرعاً نحو كونتوار الإستقبال في الفندق، وكأنّه متوجه للقاء مع القذافي. وكانت أيضاً آخر مرّة يراه فيها.
سبق لبدر الدين أن التقى أكثر من مرة مع أسعد المقدم من وفد «السفير» الذي علم منه أن الإمام موجود في الفندق ورافقه أولاً للقائه قبل لقائه الموسع مع الوفد. بعد اختفاء الإمام ورفيقيه تواصلت زوجة بدر الدين السيدة زهرة مع المقدم وأخبرها أنه التقى زوجها صباح 31 آب وأنّه علم منه أنّهم حدّدوا لهم الموعد عند الظهر. وهو الوقت الذي غادر فيه الإمام ورفيقاه الفندق بالسيارات الرسمية.
حضر وفد «السفير» الإحتفالات بعد المقابلة وعاد إلى لبنان وفي اعتقاده أنّ الإمام ربّما غادر ليبيا بعد إتمام اللقاء مع القذافي. ولكن الواقع كان مختلفاً تماماً. بدأوا يتلقّون اتصالات تسأل إذا كانوا شاهدوا الإمام. ولكن كان الإمام ورفيقاه على موعد مع مصير مجهول. بعد عشرة أيام سيبدأ البحث عنهم بشكل رسمي. وهو لا يزال مستمرّاً. انتهى عهد القذافي وانتهى معه مقتولاً وكشف الكثير من الجرائم التي ارتكبها النظام ولكن لم يتمّ الكشف بعد عن مصير الإمام ورفيقيه. أما البحث المستمر عن الإمام ورفيقيه منذ 45 عاما فله قصة أخرى.