عندما انطلقت بنا الطائرة من مطار بيروت الدولي (هكذا كان اسمه قبل أن يصبح مطار الشهيد رفيق الحريري) كان وطننا غارقاً في الدماء والدموع جراء تلك الحرب اللعينة التي خُطِّط لها في الخارج وانخرط فيها الداخل، وبعضه غافل عن مصير محتوم: انهيار هذا الوطن دوراً وحضوراً ومقوّماتِ الصمود، فتتناسل الحرب حروباً تلتهم نيرانها الجميع، وهي التي بدأت على حالٍ وتواصلت على أحوال، فلم يبقَ لبناني واحد لم يطاوله لهيبها، فوصلت الى اقتتال الفريق الواحد بل داخل الحي الواحد، ولا تزال تداعياتها الاقتصادية والإنسانية تلتهم آخر مزايا هذا الوطن الذي كان زينة البلدان فإذا بنا أمام هذا المسخ.
اقتُصر الركاب في تلك المقصورة من الطائرة على ثلاثة: كاتب هذه الكلمات وسماحة الإمام السيد موسى الصدر والسيدة حرمه. وكنتُ (وما أزال) من الكثرة اللبنانية التي أحبت الرجل الذي اجتاح العقول والقلوب من الناقورة الى النهر الكبير، بخطابه الوطني الجامع، ولم أكن أترك مناسبة يكون سماحته نجمها من دون أن أبادر الى حضورها، للاستماع إليه متكلماً ليسحر الحاضرين، ليس فقط بالكاريسما التي منحه الله إياها، انما أيضاً ببلاغته وفكره النيّر وأسلوبه المميّز بالوطنية وبالإنسانية الشاملة.
سألته عن موجب زيارته العاصمة الفرنسية فيما لبنان بحاحة ماسّة الى حضوره في تلك الحقبة السوداء التي أُفْلِت فيها الوحش من النفوس، وهيمنت فيها شريعة القتل والدمار، وسادت مشيئة الميليشيات الفلسطينية واللبنانية، وهل هو يلبي دعوة فرنسية رسمية؟
فأجابني أن دواعي الزيارة صحية، وأنه يعاني منذ أيام هبوطاً قوياً في ضغط الدم ليصل الضغط العالي الى خمس درجات، وأن أحد الأطباء الشهيرين في مركز «أوتيل ديو» موجود في فرنسا (حينذاك)، ونظراً للظروف المعروفة في لبنان، قد نصحه بزيارة عاصمة النور، باريس، وقد هيّأ له ما يقتضيه العلاج. قبل أيام من اللقاء على متن الطائرة كان سماحته سيقوم بزيارة الى منطقة بعلبك وسيُشرف على تنفيذ مشروعٍ إنمائي، لست أذكر اليوم ما إذا كان تدشين بئرٍ ارتوازية أو أي مشروع آخر، وحدث أنه تأخر بعض الوقت عن الوصول، وانفجرت عبوة ناسفة في الوقت الذي كان محدّداً للتدشين. وسألته عن تلك العملية فأجابني حرفياً: لقد ثبت لي من تحقيقاتنا وما توصّلت إليه الأجهزة الشرعية، أو ما تبقى منها في ذلك الحين، أنها محاولة لاغتيالي، وقد نجوتُ منها بفضل الله، إذ لو سارت الأمور كما كان مقرراً ووصلتُ في الوقت المناسب لكنتُ قضيتُ وقضى معي العشرات من شدة الانفجار. ومما أذكره عن تلك الرحلة أنه انتهى من حديثه لينظر الى يمينه حيث كانت السيدة حرمه تجاوره، فوجدها قد رفعت بيسراها القرآن الكريم لتحجب جانب وجهها، وهي المحجّبة أصلاً. فدعاها بهدوء لأن تكفّ عن هذا التصرف(…).
والى أن حطّت بنا الطائرة في مطار شارل ديغول، تشعّب الحديث وتناول موقفه من «الترحاب الجميل» الذي لقيه من اللبنانيين عموماً ومن المسيحيين تحديداً «الذين استقبلوني بقلوب وأبواب مفتوحة في مقارّ مقاماتهم الروحية وفي كنائسهم وبيوتهم».