IMLebanon

الإمام موسى الصدر: بدعة لا غالب ولا مغلوب؟

منذ ما يزيد على ثمانية وثلاثين عاماً وهو الغائب – المغيب الحاضر: الإمام موسى الصدر.

ربطتني بالإمام موسى الصدر علاقة مهنية منذ مطلع بداية إطلالته على عملية بناءَ الصيغة الشرعية للطائفة الشيعية.

وبمعزل عن كل ما كتب وقيل وتردد عن «سر اختفائه» اخترت نشر بعض المقاطع من اللقاءات التى أجريتها مع الإمام الصدر علها تلقي بعض الأضواء عن تلك الشخصية الاستثنائية، وحرصت على الإبقاءَ على صياغة التعابير كما وردت على لسان سماحته… وفي ما يلي أبرز مضامين بعض تلك اللقاءَات.

أذكر ان اللقاءً مع الإمام الصدر كان بتاريخ التاسع والعشرين من العام 1969، وبدأت بطرح السؤال التالي:

تعايش سماحة الإمام كما يدرك الجميع فترة مصيرية في لبنان والعالم العربي، فماذا تقترحون من أسس محددة يمكن أن يلتقي حولها اللبنانيون على أهداف مشتركة لخدمة لبنان؟

الإمام موسى الصدر: حول هذا السؤال بالذات أعتقد بأن نقترح الأسس التي هي ضرورية لكل تجمع ابتداءً من الجمعية الصغيرة التي تتكون في القرية وانتهاءً بهيئة الأمم. كل تجمع يتكون حول أسس معينة، لكن المهم هو تحقيق هذه الأسس، ولكى نتمكن من تحقيق ذلك علينا أن نعتمد على أسس مستندة إلى واقع وإذا كان هذا الواقع مرتبطاً بجذور عميقة تاريخية أو جغرافية أو إنسانية أو عقائدية لا شك في أن هذه الأسس سوف تكون عميقة في القلوب وفي النفوس وتجمع بالفعل حولها مجموعة من الناس.

أما بالنسبة إلى لبنان، فلبنان ذو واقع تاريخي يمتد إلى أقدم العصور، هذا التاريخ الذي يحمل في طياته الكثير من الحضارات والأمجاد والرسالات والثقافات، هذا التاريخ الذي يجعل اللبناني في هذا اليوم إذا كان مطلعاً على تاريخه يشعر بالطموح لأنه يتذكر الأمجاد والحضارات والإمكانات التي كانت ولا تزال للإنسان اللبناني أن يقوم بدور رسالي كبير. ومن الناحية الجغرافية، لبنان جزء من العالم العربي ومنفتح على آسيا وأفريقيا وأوروبا، قريب من البحر. هذه الإمكانات تعطى اللبناني إمكانية التحرك، وتسهل له تحقيق الطموح الموجود عنده. قربه من البحر، المناخ المعتدل، سلامة الجسد، هذه الإمكانات الإنسانية تسهل تحقيق الشعور الرسالي الإنساني وتبدو واضحة هذه التصرفات عند اللبنانيين المقيمين، وبصورة أوضح عند اللبنانيين المغتربين فى العالم، لأن هذه الإمكانات تسهل بالفعل تشجيع اللبناني على الإغتراب.

ثم إن لبنان ذو واقع حضاري، تتكون الحضارة من مختلف الحضارات المتنوعة وثقافات متعددة وتيارات فكرية متنوعة، ما يجعل لبنان ملتقى أو معرضاً أو بتعبير ربما ألطف، هذه الألوان نوافذ حضارية تعكس على لبنان تجارب ملايين وبليونات من البشر من الممكن جداً الاستفادة من هذه المكاسب البشرية المتجمعة في لبنان.

على ضوء هذا الواقع الذي هو واقع مشرف ومشوق، نجد في لبنان هناك ألواناً ومجموعات، هذه الألوان والمجموعات من الممكن أن تستعمل وتستغل للعزل والانفصال، ومن الممكن أن تستغل كمنطلقات للتعاون لأن كل فئة عندها تجارب، عندها أفكار. ممكن أن تكون وسيلة للتلاقي، للتعارف لتبادل المعلومات والتجارب، وبالتالي لتكوين حضارة إنسانية مستفيدة من كل التجارب، ومن الممكن أن تسهل مهمة اللبناني الرسالية، على أساس أنه نتيجة هذه التجارب، ممكن أن تصدر للعالم وتكون مهمة رسالية لهذا البلد.

لكن الشرط الأساسي لكي نتمكن من أن نجمع هذه الأفكار والألوان والتجارب ونجعلها منطلقات للتعاون، وجود الاحترام المتبادل بين أبناء هذه البلد، وهذا ليس شيئاً جديداً في لبنان، أي بلد. لأنه إذا كان في بلد لا توجد فيه هذه الأفكار تجد أشياء محلية إقليمية عائلية، وسائل أخرى، ممكن الجاهل أن يستغل هذه الوسائل فيكون إنفصال وعزل وتناحر. لا خوف من وجود ألوان من الأفكار والآراء في هذا البلد، لكن إذا كانت هناك ثقة متبادلة، والثقة المتبادلة لا تحصل إلا بالاحترام المتبادل، لازم أنت تحترمني وأنا أحترمك، لا أحتقر غيري، وغيري لا يحتقرني. وإلا بطبيعة الحال لا تكون هناك ثقة، وبالتالي البلد ينعزل ويتحول إلى فئات وكتل بشرية غير منتجة ضعيفة، ولكي يسهل التبادل يجب أن أثق بالثاني والثاني يثق بي.

إذاً الأساس هو الاعتراف بهذه الحقيقة، ثم الثقة المتبادلة التي تحصل نتيجة للاحترام المتبادل لأجل التعاون. مع الأسف هذه الحقيقة قد تشوه فتسمى بالتسويات، هذا الذي يسمونه لا غالب ولا مغلوب في لبنان، لكن هذه التسويات إذا كانت تسويات بالفعل ففيها أخطار، لأن التسوية عادة تكرس الغلبة، فلكي يسكتوا الغالب ويعطوه أكثر من المغلوب وإن كان على ضلال هذا خطر، وخطر ثان هو أن التسويات تتم دائماً بين الوجوه على حساب الناس، على حساب الشعب.

هذان الخطران موجودان في التسويات، لكن إذا اعتبرنا ان الألوان من التفكير والحضارة تسهل مهمة التعاون بين أبناء البلد الواحد، فسوف يكون بلا شك وسيلة لشدة الارتباط بين أبناء الوطن الواحد، لأن كل واحد يشعر بأنه لا يستغني عن الآخرين. وهكذا من الممكن وضع هذه الأسس ويجتمع اللبنانيون حول هذه الأسس وبتعبير موجز الاعتراف بالحقيقة والاحترام المتبادل شرط أساسي لبقاء أي وطن واستمراره.

عادل مالك: نحن أمام أخطار مختلفة تهدد لبنان، بل سلامة لبنان في الوقت الحاضر وتعرض الحدود اللبنانية للخطر. فما هو واجبنا كلبنانيين لدرء هذه الأخطار؟

الإمام الصدر: طبعاً هذه الأسئلة في حاجة إلى أجوبة طويلة، لكن أنا أوجز قدر الإمكان، ربما جوابي عن هذا السؤال يكون غريباً على المستمعين والمشاهدين. أنا لا أجد أي خطر خارجي علي لبنان يذكر، وحتى علي أي بلد وأي شعب وأي أمة، فالخطر الأساسي هو الخطر الداخلي، حتي العدو يحاول دائماً أن يستغل الانقسامات والأخطار الداخلية فيضرب البلد من خلالها.

فالخطر الخارجي الذي تقصده، أي الخطر الصهيوني، لا يمكن الاستهانة به لأنه ربما أخطر خطر في العالم، ولكن أقصد أن الخطر الذي يهدد كيان أمة أو كيان وطن أو كيان شعب هو الخطر المميت، وأنا أعتقد، وهذا واقع، بأن الشعب لا يمكن أن يموت مهما كانت الأخطار والأعداء كثيرة، وما مات شعب أو أمة في التاريخ نتيجة للاضطهاد أو نتيجة للغلبة الخارجية، إذا كان هذا الشعب متماسكاً وموحداً وشاعراً بمسؤوليته. المهم هو الخطر الداخلي، خطر الانقسام، هذا الذي أشرنا إليه في الجواب عن السؤال الأول، وهو يحصل نتيجة للتحقير وعدم الاحترام والاحتقار للوطنية وتصنيف الناس، هذه المشاكل التي نعيشها. والخطر الأساسي الداخلي هو خطر الميوعة، خطر الذوبان، خطر الفساد، لأنه بالفعل مما يؤسف أننا نشعر في وقت كان من الواجب أن يعيش لبنان كمجتمع حرب يكون كل شيء فيه يشير إلى الصمود والوقوف والدفاع، نجد أنه لا يزال عند البعض من أبناء هذه البلد شعور بأنهم لا يزالون فى مجتمع عادي، مجتمع رخاء ورفاهية، السهرات الاجتماعية، الملابس، وهذا شيء لا يمكن. أما نريد أن نعيش في هذا العالم وفيما هذا العالم لا يمكن أن يعيش إنسان إلا بجهد. أما بالهزل بالإسراف بالميوعة لا يمكن الفرد أن يعيش في هذا العالم، فمن المفروض أن نضع حداً لهذا الفساد. ما من شك في أن قسماً يقع على رجال الدين والمصلحين، ولكن كذلك على المؤسسات الإعلامية، على الصحف والجرائد، على الدولة بالذات على الحكومة أن تراعي ظروف المجتمع الذي تعيشه وتحدد وسائل الفساد وتكوّن مناخ جدّ، مناخاً طاهراً، وربما في البحث عن التجنيد الإجباري الذي يقال في هذه الأيام ونرجو أن يتم، الوسيلة المعقولة لتكوين مجتمع حرب عند شباب لبنان أو مجتمع جد نسميه، لأننا نحن لا نريد أن نحارب لكن نريد أن ندافع.

وبالنسبة إلى الخطر الخارجي، وأمام هذا الخطر لنا كلمة واحدة: كلمة الصمود حتى الموت، الصمود المطلق إذا كان لنا وسائل الدفاع ندافع، إذا لم تكن لدينا وسائل الدفاع نموت، وموتنا ربما لا يمنع من الاحتلال لكن تسجيل موقف. أولادنا شعبنا في المستقبل يشعرون أن أباءهم ماتوا، وهذا هو السبيل الوحيد لبقاء هذا البلد ولبقاء أي بلد آخر. ولهذا فإن الكلمة الوحيدة لدرء الخطر الخارجي هو الصمود، الصمود هو سلاح مطلق لا علاج له إطلاقاً.

التجنيد الإجباري شيء لا غنى عنه إطلاقاً سواء كان من جهة القضاء على الفساد الداخلي وصهر اللبنانيين في بوتقة وطنية صادقة، وفي نفس الوقت من أجل الدفاع أمام العدو، ثم الوسائل الإعلامية، وقبل ذلك التنسيق للعمل مع الدول العربية الشقيقة، هذه الوسائل التي هي من اختصاص السياسيين واختصاص العسكريين واختصاص الجامعة العربية، وكما قلت في بيان (المجلس الإسلامي الأعلى للطائفة الشيعية) نحن نعتبر أنفسنا قوة مواطنية ضاغطة للتوجيه، للضغط والمطالبة، فإذا أمام الأخطار علينا أن نصمد وأن نهيّء الجو للصمود وأن نكوّن أنفسنا للصمود، وأفضل طريقة لتكوين النفس للصمود هو تقوية الإيمان بالقيم. الإيمان بأن الحق هو الذي ينتصر في العالم مهما تقلبت الظروف ولو طالت أياماً وسنين وعشرات السنين.

أمام الأخطار الداخلية، الاحترام المتبادل لتقوية الصف الوطني ومكافحة الفساد بقوة، لأنه اليوم لا يمكن محاربة الفساد، لأنه فقط خلاف للدين أو خلاف للأخلاق، الفساد اليوم كل عمل في هذا البلد وكل ميوعة وكل ذوبان. وكل بيت للفساد يعتبر خلية للعدو فى داخل البلد، وهذا لا يجب أبداً أن نتجاهله، وأنا لا أتحدث في هذا الموضوع بالذات كرجل دين وأنما أتحدث كمواطن مخلص لا يمكن للبلد أن يعيش فى مجتمع جد، مجتمع حرب ويكون فى صفوفه، في بيوته في الليل، في النهار خلايا للفساد. هذا غير مقبول (حاشية لكأنه كان يقرأ حول الفساد والتوابع، وما أشبه اليوم بالبارحة).

عادل مالك: الإحصاءات العامة أثبتت أن نسبة الشباب في لبنان تتجاوز نصف عدد سكانه، أي تتجاوز الـ 55 في المئة، لكن الملاحظ حتى الآن أنه لم يحدث أي تجمع لشباب الطليعة يمكن أن نستفيد منه على صعيد لبناني عام، فماذا تقترح سماحتكم بهذا الشأن؟

الإمام الصدر: وجود التجمع بين الشباب هذا أمر يجب أن يترك لهم، يعني الشباب هم لازم يتجمعوا ويحققوا أهدافهم المشتركة، لكن في ما يعود إلينا يعني المجتمع، البحث في الموضوع يجب أن يكون كيف نستفيد من طاقات الشباب، وطاقات الشباب كثيرة جداً لأجل الحال ولأجل المستقبل، وكيفية الاستفادة من هذه الطاقات ارتباط بالمجتمع القائم لأنه طبيعة الحال، الشباب لأنه جديد يريد شيئاً جديداً، ولأنه ما تعب وما كدّ في تكوين هذا المجتمع، لا يحب المجتمع ولا يريد أن يكون شيئاً جديداً. وهذه الثورية عند الشباب نابعة من ها هنا، من أن ارتباطهم بالمجتمع القائم ضعيف. أمامنا ارتباطان، ارتباط عقلاني وعاطفي، الارتباط العقلاني غير موجود في الوقت الحاضر.

وبعد…

هذا غيض من فيض مما يكتنزه هذا الرجل، وما أحوج الوطن وما أحوجنا إلى فكر مستنير ومنفتح لمواجهة موجات الكراهية وأخطار التطرف الأعمي والمجنون التي تعصف بالمنطقة.

أما السؤال الكبير حول مصير الإمام الصدر فلم يعرف في شكل محدد على رغم انقضاء ما يقرب من أربعة عقود، باستثناء بعض الإشاعات التى تطلق من حين لآخر. وينبغي استلهام شخصية الإمام المُغيب ماثلاً أمامنا للإفادة من فكره الطليعي الذى آثر فرض لبنان على أي فكر أو اعتبار آخر.