هل هي مجرد دعسة ناقصة أدّت الى عاصفة دفع ثمنها الوضعُ المالي الهش، وأدّت الى المزيد من الخسائر والمخاطر، أم أنّ الأمر يتجاوز منطق الهفوة اللفظية، وصولاً الى ما هو أبعد، ويلعب فيه بعض الإعلام العالمي دوراً تنفيذياً؟
كان الوزيرُ المقرَّب من العهد في مكتبه، عندما تلقى اتصالات متلاحقة أفادته بأنّ الصناديق الأجنبية التي تحمل في محفظتها سنداتِ دينٍ لبنانية بالدولار، تعمّد الى طرحها للبيع. وبسبب هذه الهجمة على البيع، تراجعت أسعارُ السندات، وساد قلقٌ في الأسواق من الأعظم.
قيل للوزير إنّ وزيرَ المالية علي حسن خليل أدلى بتصريح جديد الى وكالة بلومبرغ قد يكون ساهم في زيادة البلبلة. (تبيّن لاحقاً أنه تصريح لتصويب الامور، وأنّ الاضطرابات في الأسواق كانت بسبب التصريح الاول وليس الثاني).
بدا الوزير، ألضليعُ في الشؤون المالية والاقتصادية غاضباً وهو يتلقّى هذا السيل من الاخبار المقلقة من الأسواق المالية. وكان يتساءل أمام زواره، مَن ينبغي أن يتحمّلَ مسؤولية ما يجري؟ هل يتحملها وزيرُ المالية لأنه قال كلاماً استخدم فيه عباراتٍ ملتبسة، فهمَها الخارج على غير معناها الحقيقي، أم نحمّل المسؤولية الى بعض الإعلام المحلي الناقم، الذي يتعاطى مع هذه الملفات الحسّاسة بحقدٍ وعشوائية، وكأنه لا يدرك أنه بذلك يساهم في ضرب البلد، أم أنه يدرك، وضالعٌ في مؤامرة لإسقاط البلد؟
وعندما قيل للوزير إنّ الإعلام ينقل الوقائع والتصريحات، ولا يتحمّل المسؤولية إذا نقل كلاماً لهذا المسؤول أو ذاك، وأدّى هذا الكلام الى أزمة، لم يبدُ موافقاً على هذه النظرية، وقال إنّ بعض الإعلام يتعمّد تقديمَ الوقائع بأسلوبٍ تمويهيّ يؤدّي الى فهم معناه على غير حقيقته. وأعطى مثالاً على ذلك تقرير «غولدمان ساكس».
وشرح أنّ أهمَّ ما ورَد في التقرير لم يكن السيناريو الوهمي حول احتمال تعرّض حاملي السندات اللبنانية الى خسائر، بل الأهم كان الخلاصة التي أكّدها التقرير، والتي تقول إنّ احتمالَ أن يتخلّف لبنان عن سداد ديونه أو سداد الفوائد على الديون، هو صفر في المئة في المدى القريب، والذي يمتدّ الى سنتين الى الأمام كحدٍ أدنى. وهذا يعني أنّ التقريرَ نفسَه أعطى تطميناتٍ الى صلابة وقدرة الدولة على دفع مستحقاتها، والحفاظ على حقوق الدائنين.
وهنا يُطرح السؤال، لماذا جرى تقديمُ هذا التقرير باسلوب مموَّه، وجرى تسليطُ الضوء على المحاكاة المتعلقة بالدين العام وكأنها واقعية، فيما لم يتم ذكرُ المقاطع الواقعية التي تؤكد عدمَ وجود مخاطر تخلّف عن السداد لمدة سنتين؟
وفي المناسبة، يؤكد الوزير أن لا وجود لخطة أو أفكار حالياً تتعلق بملفّ الدين العام. ويوضح أنّ أيَّ خطة من هذا النوع تحتاج في الأساس، وبصرف النظر عن طبيعتها، الى مشاوراتٍ وتوافقٍ وطنيٍّ واسع، والى اتّباع الأصول المعتمَدة.
وبالتالي، لا يوجد اليوم أيُّ تفكير في هذا الملف، ومن البديهي أنّ أيَّ وزير أو مسؤول لا يستطيع أن يقرّرَ لوحده في موضوعٍ من هذا النوع.
في النتيجة، يُفترض أن تبدأ تداعياتُ كلام وزير المالية في الانحسار تباعاً، لأنّ الوزير نفسَه صوّب كلامَه، وأكد ما هو أساسي في هذا الموضوع، وهو أنّ الدولة مُلتزمةٌ دفع ديونها من دون أيِّ تحفّظ، وأنّ ما قصده في كلامه هو إدارةُ الدين العام في محاولةٍ لخفضه، من خلال التصحيح المالي.
لكن لا شك في أنّ «هفوة» وزير المال أخذت حجماً أكبر ممّا تستحق، لأنها جاءت في وقت صعب، على طريقة الهفوة التي يرتكبها حارسُ مرمى فريق كرة قدم في «الوقت القاتل»، حين تصبح الهفوةُ مُكلفةً جداً، ولا يمكن تعويضُها.
لكن ما يثير المخاوف اليوم، هو ما أشار اليه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، في شأن شكوكه في وجود أمرٍ غير مفهوم في تركيز بعض الإعلام العالمي على الوضع المالي في لبنان. وهو يتساءل في العلن، وفي مجالسه، عن الجهات التي تحرّك هذا الإعلام العالمي، وتجعله يصوّب سهامَه على الوضع اللبناني بأسلوب خطير.
ورغم أنّ سلامة يرفض أن يجزمَ في هويّة مَن يحرّك هذا الإعلام، وإذا كان هناك فعلاً من عمل مقصود أم لا، إلّا أنه يعطي تلميحات في شأن شكوكه. هذه التلميحاتُ تقود الى توجيه أصابع الاتّهام الى الدوائر الصهيونية انطلاقاً من واقع أنّ هذه الهجمات الإعلامية بدأت فعلياً بالتزامن مع إقرار قانون العقوبات الأميركي على تمويل «حزب الله».
في النتيجة، لا المخططات في حال وجودها، ولا مخاطر التخلّف عن سُداد الدين العام غير الواردة أصلاً، هما المشكلة الحقيقية، بل تكمن المشكلة في غياب القرار المحلي حتى الآن، لوقف التدحرج نحو الهاوية.