يسأل حفيدٌ شابٌّ جدَّه: لماذا نحن لا يحق لنا أن ننعم بما يتنعم به أبناء آدم في العالم أجمع؟ ويضيف: اليوم سمعتك تتحدث عن مسلسل حروب عشتها، وعانيت ويلاتها، عقوداً طويلة من دون انقطاع، وإنك أمضيت ميوعة الصبا وزهرة الشباب ونضج الكهولة وتكاليف الشيخوخة في الحروب والاضطرابات والإشكالات.
ثم قبل يومين كنا في مجلس استمعتُ فيه الى والدي وبعضٍ من أترابه يتبادلون الحديث وخلاصته أنهم ولدوا في الحرب، ولم يتخلصوا من ذيولها حتى يومنا هذا، وإن الحرب تناسلت حروباً، ما إن يُطفأُ سعير إحداها حتى تستعر نيران ثانية وثالثة ورابعة الى ما هنالك… وقد استمعت إليهم يروون الحكايا عن حروب بين لبنانيين وغرباء، وبين مسيحيين ومسلمين، وبين مسيحيين ومسيحيين، وبين مسلمين ومسلمين، وبين جيش لبناني وجيش سوري الخ…
ومضى الحفيد يقول: ثمّ صُعقتُ لما تحققتُ مما كانوا يقولون وأدركتُ الفرق بين القيمة الشرائية التي كانت عليها عملتنا الوطنية والحال التي وصلت اليها الليرة اليوم، إذ بنحو خمسماية ألف ليرة كان في المستطاع شراء «شاليه» على الشاطئ أو مثله في الجبل، واليوم هذا المبلغ لا يشتري سندويش شاورما واحداً… وصاحب الخمسة ملايين ليرة كان يُصنَّف بين «المرتاحين» مادياً وأمس شاهدتُ والدي يدفع ضعفَي هذا المبلغ، أي عشرة ملايين ليرة، ثمن كيلوغرامَين (فقط كيلوان مشاوي ومعهما صحن الحمص)…
ويا جدي لماذا أصبحتْ أحوالكم على هذا المنوال؟ لماذا ما زلتَ تغص عندما تتحدث عن لبنان، ولماذا ما زلت تحب لبنان؟ أنا، ابن السابعة عشرة أستعد لدخول الجامعة في الخارج وأريد أن أصارحك (وأستميحك عذراً سلفاً) إن هذا اللبنان لا يعني لي شيئاً، وليتني لم أولد فيه، وأعاتب والدي لأنه لم يوافق على مبدأ ان نحصل على جنسية غير لبنانية.
أسهب الشاب في الكلام لينتهي مودعاً جده وهو على أهبة الانتقال الى المطار ليستقل الطائرة الى أحد بلدان هذا العالم، حيث الحق في الحياة والكرامة مصانٌ ومقدّس.
كادت الحرقة أن تخنق الجد وهو يقبل جبين حفيده ويباركه ويدعو له بالتوفيق، وهو يقول: يا بُنيّ إن لبنان الذي أحببتُه وأحبه جيلي هو غير هذا اللبنان المسخ الذي «تتسلبط» عليه (شعباً ومقدّراتٍ) حفنة من الزعران والعصابات والقراصنة والقتلة…