إنها قصة كل بيت، فبعد كل الخراب الذي طاول الوطن بأسره، بعد أن أصبح لبنان جملة من المواقع والثكنات الزاخرة بالسلاح غير الشرعي والإنتماءات المرتبطة تماما بالمواقع الإقليمية ذات الطابع الطائفي والمذهبي، وإلى حدود الإنتماء والإلتصاق الكامل، وفقا لما تصرّح به ألسنتها الناطقة التي باتت تحتكر القرار والتحكم والتصرّف، إنها قصّة كل عائلة أُغرقت بكل صنوف الأذى والتدهور الإقتصادي والمعيشي والإجتماعي، وبات شبابها وشاباتها على وجه الخصوص، تائهين وسط الأزمات والمصائب المتتالية، فلم يعد الوطن بالنسبة إلى الكثيرين منهم، ذلك اللبنان الجميل، والوديع، الزاخر بالآمال والأماني وروحية العيش الحضاري المنفتح على العالم بأسره وعلى آفاق مستقبل تهيئه لهم ثقافات متعددة المواقع والتفوقات والندرة النوعية التي جعلت من هذه البلاد منطلقا لنتاجات الحاضر والمستقبل، مشفوعا بتضحيات هائلة من أرباب العائلات بمستوياتها الحياتية كافة وصولا في ذلك إلى بذل الغالي والرخيص للإرتقاء بمستوى أولادهم إلى مواقع متفوقة، أعدت لوطن بصفات عالية الشأن والقيمة، فاذا بها اليوم غارقة في هذا «الجحيم» الذي أطبق على أنفاس الجميع، وفي طليعتهم شبابه وشاباته. من هنا، بدأت تلك القصة الحزينة.. قصة كل بيت وكل عائلة وكل أهل، يتابعون في هذه المرحلة الإنحدارية الرهيبة، كيف يتفلَّت منهم ومن جنى عمرهم وآمالهم، فلذات أكبادهم وتطلعاتهم إلى مستقبل لهم، زاهر ومستقر وقادر على اختراق سدود الحياة التي باتت مرتبطة كل الإرتباط، بهذا البلد المنكوب الذي غزاه الإفلاس والتراجع الإقتصادي والثقافي والحضاري والإنساني، فامتدت آثاره المقيتة إلى صغار العائلات وشبابها، وتحولت أنظارهم وآمالهم وطموحاتهم إلى خارج الحدود، إلى بلاد الله الواسعة التي يتخلصون في آفاقها من أدران الغش والفساد والسرقة المفضوحة والنهب العلني ويبتعدون ما أمكنهم عن مواقع «الإنفجارات النووية» التي تقضي على الأرواح والأنفس بلمح البصر والتفجير والطمس المفتعل والمشغول على كل معالم الجرائم المرتكبة في كل حقل وكل ميدان. شبابنا، ابناؤنا، آمالنا في ما تبقى لنا من امتدادات الأيام المتبقية من هذا العمر الذي لوثته لنا أيادي الذل والعار والإرتكابات الجرمية بأصنافها الوقحة والمتخفية بمسوحات الطائفية والمذهبية والمناطقية، وهي قبل أي اعتبار آخر، خروج عن كل المبادىء والقيم والعيش السليم. ماذا نقول لأبنائنا ونحن وإياهم ننظر بعين الرهبة والشفقة والحنان إلى أطفالهم الملاحقين بشتى أنواع التهديد والأخطار المحدقة بحياتهم الغضة في كل ما تبقى لهم من مسالك في هذه الحياة الصعبة التي باتت تواجههم، وها هم آباؤهم، وفي ما تبقى لهم من مراحل العمر، وفي ما أطبق عليهم من ارتباط وثيق بهذه الأرض وهذا الوطن الذي عاشوا فيه زمناً تراوحت فيه الايام بين السوء والجودة، ولكنها كبّلتهم إلى جذوره وإلى ما سبق لهم من ارتباط وثيق بخيوطها الممتدة إلى كل خيوط هذه الحياة المتسارعة، بحلوها ومرّها، بذكرياتها الحية وبمواقع التعثر في مجرياتها. هو العمر، ونتاجاته العائلية يمضي بنا إلى هذا التشبث بهذه الحياة، وهذه الأرض التي باتت جحيما وفقا للتعريف بها من قبل رئيس البلاد.
أبناؤنا، إما وأنهم أصبحوا حاليا في الخارج، يتابعون حياتهم وحياة أطفالهم بعيدا عن حالة الدمار والخراب والإفلاس المادي والمعنوي التي يعاني منها اللبنانيون في هذه الأيام المصيرية، وإما أنهم يتلمّسون السبل التي تنقلهم إلى الخارج، ليستبدلوا أجواء هذا البلد التي غمرتها القاذورات والزبالة ودواعي الأمراض المختلفة التي تحفل بها أجواؤنا وهواؤنا الذي كان نقياً وقد استقر الآن في أجواء ناقلة لشتى أنواع الأوبئة والأمراض، وها هي إطارات الحياة بكل أشكالها وألوانها التي أصبحت تتماشى مع البلاد الأكثر تخلفا وتعاني من مظالم الحياة الأشد قساوة وخطرا بيئيا واجتماعيا وحياتيا.
ماذا يقول المواطن «العتيق» لأبنائه في مثل هذه الظروف التي تحول معظم زعمائها وقادتها ومنقذيها إلى ذئاب لا توفّر لغير أجوائها المباشرة والموبوءة، أي سبيل من سبل الحياة والنجاة وتخطّي المصاعب والمطبّات التي اختلقتها وغذّتها وطوّرتها بحيث بات يستعصي على المتطوعين لعمليات الإنقاذ كفرنسا وبعض البلاد الأخرى، تحقيق أي نجاح أو تعديل أو تبديل في مسيرة الإنهيار الكامل والزوال المطلق التي ننحدر جميعا باتجاهها بسرعة الصواريخ التي امتلأت بها أرجاؤنا وباتت كما هو الحال التي طاولت مرفأ بيروت، تمثل جزءا من احتمالاتنا الحياتية، نعيش في أرجائها أو نسلم أرواحنا إلى القضاء والقدر، يفعل بنا ما يشاء ونستسلم له بما نشاء وما لا نشاء، ما نشهده في هذه الأيام من لا مبالاة للممسكين بالشأن العام وبمفاتيح البلاد وبأرواح العباد، فهم يغلقون آذانهم أمام كل الإحتجاجات والصيحات والإستغاثات والتحذيرات، فالبلاد لم تعد أهلها وأجيالها الآفلة والطالعة، تكاد أن تتسلم لقدر باتت فيه ثروة البلاد وأموالها المنهوبة مودعة بأمان واطمئنان بعيدا عن المخاطر في بلاد الله الواسعة، وعمليات النهب ما زالت آفاقها مفتوحة على الغارب لكل من فتحت لهم الأقدار أبواب التحكّم بالبلاد وبالعباد.