ثمّة ظاهرة ليست جديدة في لبنان، وهي ظاهرة الإغتراب والهجرة، والتي تسلك في الآونة الأخيرة طريقاً خطرة ومقلقة للوطن والشعب.
إنّ ظاهرة الهجرة والإغتراب، والتي يُواجهها لبنان وشعبه في الوقت الحاضر، وعلى نحو غير مسبوق، ليست جديدة، بل مزمنة، وقد مرّ اللبنانيون فيها منذ مئات السنين، وسيمرون فيها مستقبلاً أيضاً. ولا نزال نذكر موجة «سفر برلك»، منذ نحو 100 عام، حيث كان اللبنانيون يهربون من المجاعة التي عصفت بجبل لبنان تحديداً، جرّاء الحرب العالمية الأولى، ويتوجّهون بالأخص إلى أميركا الشمالية، واللاتينية، ولا سيما بلدان البرازيل، والمكسيك، والأرجنتين، ثم تواصلت هذه الموجات المتتالية حتى وصلنا إلى الجيل الخامس، فيما الهجرة مستمرة وعلى أشدّها.
نذكّر أنّ الموجة الثانية الكبرى من الهجرة، كانت تلك التي شهدها لبنان جرّاء الحرب الأهلية التي إندلعت في العام 1975، حيث هاجر اللبنانيون حينها إلى كندا، أستراليا والولايات المتحدة، فضلاً عن بلدان أوروبية عدة.
هناك موجة مهمّة والتي جذبت اللبنانيين إلى بلدان أخرى عدة، جرّاء فورة الأسعار النفطية والغازية، وقد ساهموا في إعمار وإنماء هذه الدول.
وهناك موجة كبيرة من اللبنانيين الذين هاجروا إلى كل بلدان إفريقيا، وساهموا أيضاً في إنماء هذه القارة، واستثمروا في كل القطاعات الإنتاجية، وتوالت الأجيال في القارات الخمس.
السبب الأساسي للإغتراب والهجرة كان دائماً البحث عن فرص عمل أكثر أهمية للتطور والإنماء، ولتحسين نسبة العيش، وزيادة المدخول.
أما اليوم، فنشهد هجرة واغتراباً، لا يشبهان ما سبق، قبل 100 عام، لأنّ أكثرية المهاجرين باتوا يهربون من الإحباط واليأس وعدم وجود أي نظرة مستقبلية، وقد فقدوا كل الثقة بإعادة البناء والهيكلة والإنماء، فلا يغتربون باحثين عن زيادة رواتبهم وتطورهم المهني، لا بل يقبلون برواتب أقل مما كانوا يتقاضونها في الوطن، وأولويتهم هي فقط العبور خارج حدود الوطن، باحثين عن الإستقرار والأمان.
فالحقيقة المرّة، أنّهم فقدوا كل نظرة ورؤية جديدة في وطنهم الأم، لهم ولعائلاتهم ولأجيالهم المقبلة، وفقدوا الثقة، ليس فقط في إمكاناتهم، لكن فقدوا الثقة بأرضهم ومستقبلهم ومستقبل أولادهم. والمقلق والمخيف أننا نخسر يومياً أصحاب الأدمغة والأيادي الكفوءة وحاملي الشهادات الأكاديمية العالية.
إنّ هذا اليأس والإحباط، قد أوصلا اللبنانيين إلى أن يتسوّلوا أمام جميع السفارات باحثين عن تأشيرات السفر، وسيغادرون إلى أي بلد يمنحهم التأشيرة والسماح لهم بالعمل، وجاهزون بأن يعملوا في أي مجال وبأي مدخول وفي أي بلد، فقط هرباً من النفق الغامض والمظلم الذي يعيشونه في بلدهم الأم.
لا شك في أنّ المغتربين اللبنانيين في الخارج كانوا ولا يزالون، يعود إليهم الفضل الأكبر في تكوين الناتج المحلي بنسبة 20% في الماضي، وقد صاروا يشكّلون في الوقت الحاضر نسبة 40% من هذا الناتج المحلي المتدهور، مما ينعكس إيجاباً على الكثير من العائلات اللبنانية كما على الإقتصاد الوطني الذي لا يزال واقفاً على قدميه جرّاء تحويلاتهم المستدامة.
المخيف والمقلق، أنّ الإغتراب المبني على اليأس والإحباط والذلّ، والتخلّي، لا يفيد الوطن، لا بل يطعن بما تبقّى به. والظاهرة الجديدة التي نشهدها اليوم هي أنّ اللبناني لم يعد يبحث عن التطوير وتحسين نسبة العيش، وفرص العمل، والمدخول، لكن يبحث عن أي أرض آمنة تستقبله، وجاهز بأن يقوم بأي عمل لتأمين لقمة العيش لعائلته، باحثاً عن الأمان والإستقرار، وهارباً من الذل والفساد والإغتيال الذهني.
في المحصّلة، إننا نشجع الإغتراب الإيجابي الذي يساهم في إنماء وطننا، والذي شهدناه في العقود الماضية، أما ما نشهده اليوم فهو إغتراب تخريبي مبني على اليأس وفقدان الثقة، فهذه الموجة الجديدة محبطة ومقلقة لوطننا وشعبنا.