يعبِّر “المنبر” في حالات كثيرة، عن وجدانيات وطنية وسياسية لم يعد يختمر بها الكتّاب المحترفون. ويكرّم كتّابه وضيوفه أحياناً أحباء لهم لا نلبث أن نكتشف أن علينا أن نحبهم نحن أيضاً. ويُعلمنا أهل “المنبر” غالباً أن أعلام الوطن ليسوا دوماً مشاهيره، وكباره ليسوا دائماً أعلامه. والمؤسف أن طبيعة أو صيغة “المنبر” تُضيء على النيّرين بعد انطفائهم، فيتضاعف الحزن لأننا لم نعرفهم إلا في الغروب بعد حياة مشرقة.
الثلثاء الماضي ضمّ “المنبر” ثلاث وداعيات جميلة ومحزنة للمحامي مارسيل سيوفي: الأول، بقلم النقيبة العزيزة الدكتورة أمل حداد، والثاني بقلم الدكتور عبد الحميد الأحدب، نجم “المنبر” ومؤرّخه، يوم يكتب، والثالث للأستاذ سليم الحايك، أحد تلامذة الحقوقي الغائب.
لم أسمع اسم مارسيل سيوفي قبل وداعيات الثلثاء. وقد أدهشني ما قيل فيه. إنما هالني أن صاحب هذه الصفات أوصى بأن يُدفن في باريس. بالأحرى، ألاّ يُدفن في لبنان. قرأت عن وصايا كثيرة وموت كثير. يوم أُحرق جثمان أنديرا غاندي، رُحت أتأمل الحريق المقدّس لكي أتأكد من أن روحها سوف تتحوّل إلى أربعين مليون فراشة! وكان ابنها البكر، راجيف، يرمي الحطب فوق ذات الساري الأخضر، بيَدين لا ترتجفان. وقرأت عن أناس غير هندوس وغير بوذيين، أوصوا بأن يُحرقوا ويُذرّ رمادهم في هواء الأرض، بدل ترابها. وعجبت مرة لمغترب أوصى أن يُحمل رماده من أميركا في جرَّة صغيرة، فقيل إن الرجل لم يكن يملك ثمَن موته وشحن رفاته، فاختار الاختصار.
هذه المرة الأولى اقرأ أن رجلاً يُوصي بألاّ يكون مثواه في وطنه. ما أبلغ وأنبل وأجلّ هذا الحكم: الوطن الذي وُلد فيه ليس الوطن الذي يُشتَهى في الراحة الأبدية. للأوطان شروط قاسية. منها أن تحسِّن سلوكها حيال أهلها وعشّاقها، فإذا ما سلّمت أنفسها للغرباء، فسدت العلاقة المقدّسة واهترأت الرموز وحصل القطع.
المأساة في وصية مارسيل سيوفي حقيقتها: هذا التراب لم يعد يستحق أهل الصدق والإنفة، كما وصفته أمل حداد. تؤدّي خيبة العاشق إلى الكفر بالمعشوق والملل من جذوة اللهفة. وكم هو هائل عدد الذين كفروا بهذا الوطن الجديد، الذي يُقتل جنوده في البارات، ويُعربد مجرموه في الهواء الطلق. الوطن الذي تقول بياناته القضائية، ببساطة مذهلة، أن في حق أحدهم 20 مذكرة توقيف. وأحياناً 40. وأحياناً فوق المائة. وكان لا يزال طليقاً.
صار جنودنا يستشهدون في ماخور. وصارت المواخير هي المكان الوحيد الذي تتجسّد فيه نعمة الوحدة الأهلية: الترابط العضوي بين النبع الذي يؤمّن البضاعة، وجغرافية التصريف الآمن. لا قيود تقليدية هنا. والأضواء الحمراء تختلط بأضواء البيوت. وبنات رومانيا مع بنات الحي. والوقاحة مع حشمة الناس وتألّمهم من سَقْط الجوار.
هل انتبه أحدكم إلى اسم المكان الذي أُقفل بالشمع الأحمر على مجزرة من ثمانية أشخاص؟ كان اسمه Wet، بلا لفّ ولا دوران ولا حياء. وسوف يُعاد فتحه قريباً. ابتسم، أنت في لبنان، الذي صار الطيّبون يأنَفون العيش فيه، والموت أيضاً.
ذكّرتنا وصية مارسيل سيوفي “بوصايا” ذلك العالِم النبيل، العالي القلب والروح وآية الوجدان الوطني، الشيخ محمد مهدي شمس الدين. قال لأهله، أنتم انتميتم إلى الأحزاب العلمانية، وحتى إلى الأحزاب المسيحية، لأنكم أردتم الانتماء إلى الحداثة، إلى وحدة التطلّع وشركة الرضى. ما لم يُعطَ الإمام موسى الصدر الوقت لأن يُبلغنا إياه، شرَحه نائبه من بعده، وهو يُلقي نظراته الأخيرة على الوطن الذي طالما اعتاد أن يتأمّله من النجف وآفاقها. عظيمة وصايا الغائبين الكبار، طليعتهم الإمام الصدر والعلاّمة محمد حسين فضل الله. وكم نفتقد بلاغتك وسِعَة أفقك وعلوّ صدرك يا شيخ محمد مهدي. تذكّر لبنان الشهر الماضي علاَّمة آخر من علمائه. ولعل الشيخ محمد مهدي كان يفكّر في هاني فحص عندما تحدّث عن الانتماء إلى “الحداثة”، بمعنى السِعة الفكرية وسِعة المعارف وتلاقي الثقافات على أنهارها العميقة.
في “وصاياه” حذّر الشيخ محمد مهدي من إلغاء الطائفية السياسية. هل يُعقل؟ قال إن الغاء الطائفية السياسية “يحمل مغامرة كبرى قد تهدّد مصير لبنان”. الأفضل أن نصحّح النظام، لا أن نهدمه، أوصى.
التقيت ذات مرة في مركز كمال جنبلاط، الراحل سليمان تقي الدين، وكان يردّد في أسى: كيف نلغي هذا النظام الطائفي؟ قلت له، بأن نأخذ من كل طائفة أفضل ما لديها، وأن نختار أفضل مَن لديها.
لم يترك مارسيل سيوفي، على ما أعتقد، مجلّدات في الفلسفة والقانون. ترك سيرة نموذجية. سيرة المواطن كما يجب أن يكون من أجل ألاّ يهرب من وطنه كمَثوى. هل صعب إلى هذه الدرجة أن يكون المواطن إنساناً أيضاً؟
أحبَّ الشيخ محمد مهدي أرض آبائه حتى أوصى بها للجميع، وخصوصاً للمسيحيين، ليس فقط في لبنان، بل لمسيحيي الشرق جميعاً، وأحبّ مارسيل سيوفي وطنه حتى لم يُطِق أن يُدفن في هذا الرماد المتوحّش الذي آل إليه.
هل هناك ما هو أغلى من الأرض؟ طبعاً. الكرامة، أغلى بكثير. الكرامة مكوّناتها البديهية من حرية وأمن وكفاية ومساواة. أعطى الاتحاد السوفياتي أهله الاعتزاز بمعادلة الولايات المتحدة، والسَبق إلى مدار الأرض، ونُصرة “الشعوب المحبّة للسلام”، لكنه لم يُرفق ذلك بالحريات. ولا استطاع أن يُنهي الطوابير في سبيل ملفوفة أو كيلو ليمون. بعد انهياره بقليل، نقلت الوكالات أن مزارعاً قَتَل ثلاثة أشخاص سرقوا من أرضه ستة رؤوس بطاطا.
العام 1945 ذهبَ أشعيا برلين إلى لينينغراد لزيارة شاعرة روسيا العظيمة آنا أخماتوفا. ظلاّ حتى الثالثة فجراً يتحدّثان عن القصيدة والرواية في موطنهما، موطن القصيدة والرواية، بوشكين ودوستويفسكي وتورغينيف. وأخبرته أنها لم تُحب تولستوي لأنه كان متكلّفاً، إضافة إلى ملاحقته الفلاحات في مزارعه! ثم عرضت عليه البقاء للعشاء. لم يكن لديها شيء سوى وعاء من البطاطا المسلوقة.
رفضت أخماتوفا مغادرة روسيا على رغم كل عذابات الداخل وإغراءات الغرب. فريق آخر من الأدباء اختار الخروج. المحنة نفسها، محنة الخيار، عصفت بأدباء كثيرين حول العالم في أزمان مختلفة: متى نقطع حبل السُرّة؟ غسان تويني كان يقول: عودوا وتعذّبوا، الوطن ليس فندقاً. كان ذلك صحيحاً يوم كانت المسألة هي الخلاف بين الناس وسياسيين مغلوبين على أمرهم وغالبين على أمرنا.
الآن الخلاف، مع الناس. مع المجموعات الضخمة التي استسلمت للخواء والتي تتمتّع بجميع أشكال التبذّل في الفكر وفي السياسة وفي البيروقراطية وفي الحياة العامة. ثمّة طلاق قد حدث بين الأجيال وقطْع حاد في الروابط مع لبنان الماضي. قطْع تام مع القيَم والعادات والمفاهيم التي قام عليها البلد. فقد كان مشقوقاً ومقسّماً على الدوام، لكن قيَم الناس فيه كانت واحدة في كل جهاته.
“الحداثة” التي حكى عنها الشيخ محمد مهدي، كانت المفهوم الجمعي، حتى عند رجال الدين. وهي هنا تعني نبذ الإقطاع والعصبيات والتكاره والتبعية والتزلّم. وتعني حسن الاختيار.
ظاهرة مارسيل سيوفي أنه فقَد – مثل أكثرية الناس – الأمل في كل شيء. طائر الفينيق وأسطورة سيزيف مجرد أساطير. “ليس تحت تحتنا تحت” كان يكرّر فؤاد الترك. قالها ولم يكن يخطر له في أسوأ حِلكات لبنان أننا سنصل إلى يوم لا ندفع رواتب الجيش والمعلمين. لم يكن يخطر له أن Wet سوف يُطلق النار على الجيش لأنه يبحث عن مطلوب بإحدى عشرة مذكرة توقيف.
لا يهمّ أن تقرأ الخبر وأنت في الحي المجاور في جونية، أو وأنت في باريس. فأنت المعني بالرسائل التي يبعث بها انتشار الانحطاط. ليس المطلوب فقط أن تُهاجر، بل أن ترفض حتى العودة. ريمون إده لم يقبل العودة إلا جثماناً مسجّى. لو تأخّر في الغياب، لربما قاد من باريس هو أيضاً تظاهرة عدم العودة. لم يعد يكفي أن ينفي اللبناني نفسه حياً.