ليس شأناً ألمانياً داخلياً أن يعود «النازيون» إلى «البوند ستاغ» (البرلمان الألماني) بعد مرور 73 عاماً على سقوط النازية. وهو ليس شأناً أوروبياً أيضاً. إنه شأن عالمي. ذلك أن النازية فكراً وعقيدة وممارسة عرّضت العالم كله إلى المآسي. وليس تهجير يهود أوروبا عامة، ويهود ألمانيا خاصة إلى فلسطين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وإعلان إسرائيل دولة لهم، سوى مظهر من مظاهر رد الفعل على الجرائم التي ارتكبتها النازية بحقهم. فدفع الفلسطينيون الثمن ولا يزالون.
ومن الواضح حسب استطلاعات الرأي العام الألماني والتي أكدتها نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة (التي أوصلت الحزب النازي – الحزب البديل – إلى البرلمان لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية ليكون ثالث الأحزاب في عدد المقاعد) أن المهاجرين الجدد إلى ألمانيا وأكثريتهم من سوريا، كانوا الجسر الذي عبر عليه النازيون الجدد إلى البوند ستاغ.
تقوم الفكرة النازية على قاعدتين؛ القاعدة الأولى، هي العنصرية التي تعتبر الألمان عنصراً واحداً. وأن هذا العنصر الجرماني يتمتع، بيولوجياً، بالتفوق. وبالتالي فإن دخول عناصر أخرى إلى هذا المجمتع من شأنه أن يلوثه وأن يصيبه بعيوب التخلف المتوارثة في هذا المجتمع الدخيل.
أما القاعدة الثانية فهي الثقافة. وتقوم على قاعدة اعتبار الثقافة الألمانية (في الفلسفة وعلم الاجتماع والأدب والفن والموسيقى) ثقافة متفوقة، وأن الثقافات الأخرى دونها فكراً وتألقاً. وبالتالي فإن المهاجرين من أهل هذه الثقافات البدائية والمتأخرة يشكلون خطراً تدميرياً على الثقافة الألمانية وازدهارها.
حصل أصحاب هذا الاعتقاد في الانتخابات الأخيرة على 5،8 مليون صوت. فهل يعني ذلك أن النازية انتعشت من جديد، وأن هذه النسبة من الأصوات تشكل دليلاً على ذلك؟
الجواب على هذا السؤال هو بالنفي. فالدراسات التي أجريت بعد الانتخابات بيّنت أن 60 بالمائة من هؤلاء صوّتوا سلباً. بمعنى أنهم صوّتوا ضد «المؤسسة الحاكمة» المتمثلة في الائتلاف السياسي الذي تترأسه انجيلا ميركل. وهم لم يصوّتوا إيجاباً. بمعنى أنهم لم يصوّتوا للنازية بما تعنيه من قيم وبما تدعو إليه من أفكار.
ثم أن 87 بالمائة من الألمان صوتوا ضد حزب البديل «النازي» لمصلحة الأحزاب الأخرى وفي مقدمتها الحزب المسيحي الديموقراطي الذي تتزعمه المستشارة الألمانية ميركل.
من هنا الاعتقاد بأنه ليس صحيحاً أن البوند ستاغ تحول إلى صندوق تفاح فاسد. الصحيح أنه يوجد الآن في البوند ستاغ تفاحة فاسدة تتمثل في حزب البديل، وأن هذه التفاحة يمكن أن تفسد البوند ستاغ بكامله كما جرى مع الإطلالة الأولى للحركة النازية بزعامة أدولف هتلر.
ومن المؤشرات على ذلك أن أحد قادة حزب البديل الكسندر غولند أعلن في إحدى خطبه الانتخابية أن الشعب الألماني يعتز ويفتخر بالأنجازات العسكرية الباهرة التي حققها الجنود الألمان خلال الحرب العالمية الثانية.
في العلوم العسكرية، قد يكون هذا الكلام صحيحاً. أما سياسياً وأخلاقياً فإن الحكم على ما قام به الجنود الألمان في الحرب كان موضع حكم بالإدانة الجماعية في محاكمة نورمبرغ.
لقد فكت ألمانيا ما بعد الحرب ارتباطها بالرايخ الثالث بزعامة هتلر بكل ما له وعليه. وفتحت صفحة جديدة في علاقاتها مع ذاتها أولاً، وفي علاقاتها مع أوروبا والعالم. ومن هنا خطر إعادة فتح الصفحة القديمة. لما تحمله من تهديدات للعالم، ولألمانيا ذاتها.
في عام 1933 كتب مؤرخ النازية «فكتور كليمبرير» في مناسبة عيد ميلاد هتلر: «ان هذه المناسبة تشكل فرصة جديدة للاحتفال الوطني». وفي الشهر الماضي، أثناء الانتخابات العامة، جرى عرض سروال داخلي لهتلر بالمزاد العلني. وتهافت المتزايدون على شرائه. إلا أنه لم يعلن اسم المالك الجديد ولا هويته. كل ما عرف عن عملية المزايدة أنه كان هناك تنافس شديد للحصول على السروال الهتلري.. لعرضه في قاعة الاستقبال العامة في مقرّ حزب البديل!
صدر منذ عدة سنوات كتاب في ألمانيا يقوم على نظرية تدّعي أن النازية بما تحمله من عنصرية قومية وثقافية، متأصلة في النفس الألمانية وأنها ليست وليدة حركة سياسية أو نتاج فكر رجل واحد (هتلر). أثار الكتاب يومها ضجة واسعة على خلفية أن مؤلفه ألماني يهودي. وقد اتهم بأنه يحاول أن يجعل من وصمة عار عابرة في التاريخ الألماني، أساساً ثابتاً في الشخصية الألمانية وركناً دائماً من أركانها. وبالتالي فإنه يحكم على الشعب الألماني كله بأنه شعب نازي.
ورغم أن عقداً من الزمن قد طوى صفحات الجدال الحاد حول هذا الكتاب، فإن نتائج الانتخابات الأخيرة أعادت فتحها من جديد.. بما يقلق المجتمع الألماني بقدر ما يقلق المجتمعات الأخرى في العالم.. وبخاصة في أوروبا.
لا ينطلق هذا القلق من نسبة الأصوات، أو من نسبة المقاعد، التي حصل عليها حزب البديل (تأسس في عام 2013) ولكنه ينطلق من الاعتقاد بأن «بذرة» النازية لا تزال حية في تربة المجتمع الألماني.. وأنها قابلة لأن تنمو وتصبح شجرة.. والشجرة إلى غابة.
يعزز هذا القلق الاعتقاد أن هذه الظاهرة لم تعد وفقاً على ألمانيا وحدها. فقد كشفت عن نفسها تحت مسميات أخرى في فرنسا (ماري لوبان والجبهة الوطنية) وفي هولندا (غيرت ويلدرز وحزب الحرية). كما كشفت عن نفسها أيضاً في العديد من دول شرق أوروبا وخصوصاً في المجر وبولندا والنمسا.
لقد غيرت الهجرة اليهودية إلى فلسطين وجه الشرق الأوسط. فهل تغير الهجرة السورية إلى ألمانيا وجه أوروبا؟