معضلة القياسات المتّبعة من قبل الجماعة الممانعة في نواحينا، ثابتة ولا تعدّلها طوارئ أو عاديّات السياسة والميدان والاقتصاد والاجتماع، ولا حقائق الدنيا لا محليّاً ولا إقليميّاً ولا دوليّاً.
من تلك القياسات أن يبقى الداخل اللبناني أسير منطق صاحب القوة الفعلية والافتراضية وحده! وعرضة لتلقّف تبعات قراءاته وحساباته وارتباطاته الأبعد من هذا الداخل والواصلة في خلاصاتها إلى نقطة مركزية نائية لكنها بالغصب والإكراه تتحكّم عن قرب بمصائر اللبنانيين ومسار دولتهم.
ورأس تلك القياسات اعتماد التأزيم وتصنيعه ثم اتهام الآخرين بذلك، ثم البناء على الافتراء للعودة إلى لغة تهديدية تتوعّد الضحيّة بالعقاب (أو بالمزيد منه!) لأن هذه الضحية في عُرف صاحب التهديد، لم تذعن تماماً بعد! ولم تلغِ ذاتها وحقوقها وكراماتها بعد! ولم ترضَ بالتبرّؤ النهائي من تبعات سعيها إلى شيء من العدالة مهما طال الزمن وزادت وحشة الطريق!
وفي جذر هذا الأداء انكسار الميزان في أساسه، حيث لا توازن في الإجمال ولا تعادل، بل هنا وهناك كفّة مثقلة بالحديد والسلاح والتعبئة المُستدامة ويحقّ لأصحابها ما تفرضه هذه الأثقال! وكفّة مقابلة لا تستحق وفق ذلك القياس إلاّ تلقّف تبعات ضعفها!
“مشكلة” المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، مثال دائم (على ما يبدو!) عن تلك القياسات الممانعة: تُرفع عقيرة التهديدات “محلياً”، في حين أن القضية أوسع مدى من الكادر السيادي اللبناني وأكبر منه! هي كانت وصارت أكثر، مثلّثة الأضلاع: محلية – إقليمية – دولية. وخرجت (تماماً) على مدى السنوات الماضيات من دائرة قدرة أي طرف محلي على التحكّم بمسارها وخلاصاتها.. وبرغم ذلك تُختصر المعادلة أو يُراد لها، أن تُختصر محلياً! وأن يدفع الضحايا المزيد من الأثمان بديلاً عن هدف يصعب النيل منه.
استقواء في غير مكانه! ويدلّ أول ما يدلّ على ذلك القياس المكسور عند المستقوي! حيث يحقّ له التجبّر والصلف، والتنكيل بالقريب تعويضاً عن العجز عن ذلك بالبعيد! ويحقّ له ساعة يشاء رفع إشارات “الانتصار” في الداخل كلما زاد شعوره بالانهزام في الخارج! وكأنه لا يُرضى بأقل من خروج المغدور من ضريحه للاعتذار منه على كل “المشاكل” التي سبّبها له بموته!!
.. وفي السياق والزقاق والنطاق ذاته تدخل محنة تشكيل الحكومة، وإن كانت “اللغة” المُستخدمة هنا أكثر احتشاماً! وأقلّ صلفاً، لكنها في الأساس لا تخرج عن “الجذر” الأول: انكسار الميزان يعني انكسار الحقوق! وأطنان الحق لا توازي أوقيّة من البارود! والتعطيل الاستنزافي مبدأ ثابت طالما أن الإذعان التام ليس ثابتاً! إمّا أن تُلبّى “كل” المطالب والشروط وإمّا لا تأليف ولا من يحزنون أو يفرحون! والتأويل الكيدي عدّة مباحة. وهذا يطال الدستور وأحكامه! والأعراف ودواعيها وشروطها! و”التسوية” ومكارمها وموجباتها! .. ثم قبل ذلك كله وبعده، وفوقه وتحته: تقضي مصلحة “المركز” في طهران باستنفار الأدوات الطرفية في المواجهة المفتوحة مع الغرب والشرق، فيصار إلى اعتقال المصلحة الوطنية اللبنانية العليا وأخذها بجملتها رهينة لتلك المصلحة وعليها الانتظار كي يُدفع ثمن إطلاقها أو عدم إطلاقها.. فيُصار إلى تحميل السعودية مسؤولية تأخير التشكيل الحكومي! وتُفتح الأبواق على وسعها لتسييل الاتّهام، وإبعاد كرة المسؤولية عن التعطيل عن راميها!
.. “انتصارات” بالجملة ينوء تحت أثقالها اللبنانيون، إلى حدّ أنهم صاروا يشتهون هزيمة ما، علّها تُحضر معها بعض اليسر لهم في كل متطلباتهم البديهية!