«إتفاق الطائف» أو «وثيقة الوفاق الوطني» كان النهاية السعيدة لحروب أهلية دمّرت البشر والحجر في لبنان على مدى خمسة عشر عاماً.
نعم إنّه تسوية لبنانية برعاية عربية ودولية، لكنّه في الوقت نفسه هو الخيار الإيجابي الوحيد المتاح، كان ولا يزال، فالخيار الآخر هو القضاء على لبنان العيش الواحد المشترك، والعودة الى تعددية قبلية ميليشياوية تتخاطب بلغة القتل والتهجير.
مساء الأحد في 22 تشرين الأوّل 1989 في الطائف، وافقَ النواب اللبنانيون وبأغلبية واضحة وبرعاية عربية ودولية على وثيقة الوفاق الوطني التي اصطُلح على تسميتها لاحقاً بـ»اتفاق الطائف»، وصدّق عليه مجلس النواب اللبناني لاحقاً في الخامس من تشرين الثاني 1989 في لبنان، والذي أصبح مضمونُه جزءاً من الدستور اللبناني في 21 أيلول 1990.
دعونا نُميّز بين أمرَين أساسيين في «اتّفاق الطائف»، الأوّل هو الجانب الميثاقي في هذا الاتفاق والذي أصبح يشكّل مقدمة الدستور، والذي لا يجوز من وجهة نظري المساسُ به تحت أي ظرف من الظروف، أمّا الثاني وهو بقية الاصلاحات فيمكن نقاشها في كلّ الأوقات.
في الأمر الأوّل عشرُ نقاط ميثاقية أوّلها «نهائية لبنان الأرض والشعب والمؤسسات ككيان»، أي المصالحة التاريخية بين المسلمين اللبنانيين ونهائية الكيان. وفي النقطة الثانية «عروبة لبنان»، أي المصالحة التاريخية بين المسيحيين اللبنانيين وهذه العروبة.
وفي النقطة الثالثة «النظام الجمهوري الديموقراطي البرلماني»، وفي الرابعة «الشعب مصدر السلطات يمارسها عبر المؤسسات الدستورية»، وفي الخامسة «مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنِها وتعاونها»، وفي السادسة «النظام الاقتصادي الحر»، وفي السابعة «الإنماء المتوازن»، وفي الثامنة «إلغاء الطائفية السياسية»، وفي التاسعة «وحدة الأرض والشعب»، وفي العاشرة «لا شرعية لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك».
رُبّ قائلٍ هنا، وهل تمّ الالتزام تماماً بهذا الجانب الميثاقي من جميع مكوّنات المجتمع اللبناني؟ والجواب ببساطة طبعاً لا، فبعضه نُفّذ وبعضه الآخر لم ينفّذ أو نُفّذ بصورة مغايرة أو تحتاج إلى نقاش.
إلّا أنّني أرى هنا أنّه حتى الأديان لا يلتزم كثيرون بها ممّن يدّعون الانتماء إليها، وهذا لا يعيب الأديانَ بل يعيب من يُسيئون الالتزام بالمبادئ والمُثل العليا، وبالقياس، فإنّ سوءَ تطبيق البعض للجانب الميثاقي من «اتفاق الطائف» لا يعيب الاتفاق بل يكشف عجزَ هذا البعض عن الارتقاء إلى مستوى الوطن وثوابته الميثاقية.
أمّا الأمر الثاني فمتعلّق بأمور لم تنفَّذ بعد أو يمكن تطويرها وتفسيرها وتحسينُها، ومنها: قانون الانتخاب، استحداث مجلس للشيوخ، إلغاء الطائفية السياسية، اللامركزية الإدارية، تفعيل المجلس الاقتصادي والاجتماعي، بسط سلطة الدولة اللبنانية على كامل الأراضي اللبنانية.
«إتفاق الطائف» عدّدَ جملة إصلاحات ملحّة بقيَ كثيرٌ منها مجرّد عناوين لم تنفَّذ، فمثلاً قوانين الانتخاب المتعاقبة لا علاقة لها بما اتّفقنا عليه في «الطائف» لجهة اعتماد المحافظة بعد إعادة النظر في التقسيم الإداري في إطار وحدة الارض والشعب والمؤسسات. ومجلس الشيوخ بقيَ حبراً على ورق. وإلغاء الطائفية السياسية بقي أغنيةً نتغنّى بها، بل ذهبَ البعض بعكس هذا التوجّه.
أمّا المجلس الاقتصادي والاجتماعي فكان شكلاً بلا مضمون حقيقي يُعبّر عمّا اتّفقنا عليه في «الطائف». أمّا بسطُ سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية فاتفَقنا لغاية عام 2000 عليها واختلفنا بَعدها وحتى اليوم على كلّ شيء له علاقة بهذا العنوان.
إنّ إقرار قانون انتخاب جديد حاجةٌ وطنية وإصلاحية لا شكّ فيها، لكن وفي الوقت نفسه، حتى لو وصلنا إلى قانون انتخاب أقرب الى الكمال لن تحلّ مشاكلنا من دون ترجمة حقيقية لحلول سياسية. فلبنان الواحد أسمى من المسلمين والمسيحيين ومن كلّ المذاهب، واستعادة إنتاج السلطة لن تكون إلّا من خلال حلول سياسية لا تمسّ الجوانب الميثاقية من اتّفاقنا. ويبقى تنفيذ «اتّفاق الطائف» هو الحلّ، وللحديث صِلة.