من ينظر إلى التأزم اللبناني في سياقه الإقليمي والدولي، لن يستغرب وإن استنكر، السجال الحاصل في لبنان بشأن التمديد لقائد الجيش اللبناني جوزيف عون، بخاصة بعد إعلان حركة «حماس» تأسيس «طلائع طوفان الأقصى» الذي يفتح باب التطوع أمام الفلسطينيين في لبنان وربما اللبنانيين أيضاً، للمشاركة في الحرب الدائرة في غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) الفائت، على الرغم من تصحيح الإعلان واعتبار المشاركة شعبية وليست عسكرية. ومهما يكن معنى ذلك، يأتي هذا الإعلان في وقت تزداد حدة المطالبة الدولية والمحلية بتطبيق القرار الأممي «1701»، وهذا ما نقله بصراحة المبعوثان الرئاسيان الفرنسيان للمسؤولين اللبنانيين. في ظل وجود حكومة تصريف أعمال، الإصرار على بقاء منصب قائد الجيش شاغراً على غرار رئاسة الجمهورية وحاكمية المصرف المركزي وغيرهما من المناصب الأمنية والعسكرية والقضائية، يعرقل حتماً عملية نشر الجيش اللبناني في الجنوب في حال حصلت تطورات سياسية أو عسكرية تؤدي إلى تطبيق هذا القرار وإخلاء منطقة جنوب نهر الليطاني من المسلحين والسلاح باستثناء الجيش والقوات الدولية.
يتجاهل دعاة تطبيق القرار «1701» في الظروف الحالية أنه متعذر ويأتي بمثابة الطلب من «حزب الله» إطلاق الرصاص على رأسه، لا سيما بعدما تبين أن دوره ومهماته يتجاوزان الهموم والمشاغل اللبنانية، بدءاً من التدخل مباشرة في الحرب السورية، وتدخله في اليمن، ثم مساندته لحركة «حماس» في حربها بغزة، ودوره بعامة كعصب رئيس لإيران وحلفائها في المنطقة. هذا ولم تعرف بعد ملامح ما سوف تنتهي إليه حرب غزة،
ما يدفع إلى الربط بين هذه المجريات والفراغ المقصود في قيادة الجيش إذا حصل والقرار «1701»، يُفهم مما سبقه من إفراغ البلاد من مقومات الدولة كافة جراء تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية والاكتفاء بحكومة تصريف أعمال محدودة الصلاحيات تتنازعها الخلافات بين أعضائها، ما يحوّل البلاد إلى مجرد ساحة يتدبر ساكنوها أمورهم ويضبط الأمن فيها «حزب الله» عبر إمساكه بالمفاصل الأمنية الرئيسية، وما تبقى متروك للجيش اللبناني.
هذه الحال تبقى ضمن سياق ما اعتاده اللبنانيون منذ سنوات لو أن الأمور بقيت على ما كانت عليه قبل حرب غزة، ولعل الإصرار على ترك لبنان من دون دولة قادرة على اتخاذ القرارات والمواقف إزاء ما قد ينتج عن مآلات حرب غزة يهدف من ضمن أهداف أخرى إلى إتاحة الفرصة لانتقال قادة من «حماس» وربما مقاتليها إلى لبنان إذا قدر لإسرائيل تحقيق بعض من أهدافها المعلنة باقتلاع «حماس» من غزة والقضاء عليها.
ما يعنينا في هذه المساحة هو عدم تحوّل لبنان إلى «مرج الزهور» أو تونس؛ الأولى عندما عمدت إسرائيل سنة 1992 إلى إبعاد 415 فلسطينياً من قادة «حماس» و«الجهاد الإسلامي» إلى بلدة مرج الزهور في جنوب لبنان، والثانية محاكاة ترحيل المقاومة الفلسطينية بحراً إلى تونس بعد حرب إسرائيل على «منظمة التحرير» في لبنان سنة 1982. لماذا لبنان؟ الجواب سهل وبسيط؛ لأنه البلد العربي الوحيد من دون دولة فعلية وقادرة، وبيروت مؤهلة ومهيأة على أكثر من صعيد لإعلان «حماس» النصر منها إذا لم تتمكن من الصمود ومتابعة القتال في غزة.
هذا لا يعني البتة أن إسرائيل قادرة على الحسم في غزة وفق ما تعلنه على الرغم من الفظائع المرتكبة، ولعلها تحتاج إلى أسابيع إضافية قد لا تسمح بها واشنطن وحلفاؤها الغربيون، والمرجح أن تضغط بقوة خلال الأسبوعين أو الثلاثة المقبلة لوقف القتال رغم استعمالها «الفيتو» في مجلس الأمن الأسبوع الفائت.
في هذه الحالة، ستلجأ إسرائيل إلى تحقيق اختراق ما يسمح لها بإعلان النصر والنزول عن الشجرة. قد يكون باغتيال أو احتجاز قادة ورموز من «حماس» أو إطلاق رهائن أو غير ذلك مما قد تجترحه هذه الحكومة الإسرائيلية من جرائم. وفي سياق الكلام عن إعلان النصر، تنبغي الإشارة إلى أن الإدارة الأميركية تعد أن النصر يجب أن يمهد الطريق لعملية سياسية تؤدي إلى إنشاء دولة فلسطينية، بشروط تتناسب مع المتطلبات الأمنية الإسرائيلية وتراعي مخاوف عربية وإسلامية من هيمنة الراديكالية الإسلامية على القرار الفلسطيني.
وسط هذه الأوضاع، يبدو أن السلام الشامل ما يزال راهناً احتمالاً بعيد المنال. ومع ذلك، فإن تجدد العنف واستمرار الكارثة الإنسانية وتهديد الحرب للاستقرار الإقليمي على نطاق أوسع، من شأنها إبراز الحاجة الملحة إلى التوصل لحل سياسي لا مفر منه، ليس فقط للحرب المستعرة، بل أيضاً للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، وهو ما تعمل على تحقيقه الولايات المتحدة وحلفاؤها بهدف إعلان مبادرة تسوية يُعد لها مع بعض الحلفاء العرب، لا سيما الأردن.
وبمجرد انتهاء الأعمال العدائية، ستركز الأولوية العاجلة على الحكم في غزة: من سيفعل ذلك؟ وما هو مصير «حماس» قادة وعناصر ومؤيدين؟ وما هو دور السلطة الفلسطينية؟ وأين سيتم إيواء النازحين الفلسطينيين؟ ومن سيؤمن لهم المساعدات الإنسانية؟ ومن سيمول إعادة الإعمار؟
الطريق طويل، وعر وملغّم، خصوصاً أن «حماس» ليست مجرد عناصر وسلاح بوسع إسرائيل أن تقتلهم وتدمرهم وتعلن النصر، وتترك غزة لمصيرها. فـ«حماس» كغيرها من الجماعات الجهادية فكر وتيار، وهي على غرار «حزب الله» عام 2006 قادرة أن تعلن «النصر الإلهي» الخاص بها من غزة أو من بيروت؛ إذ لديها من المؤيدين المؤمنين بخطها والمقاتلين في الضفة الغربية ولبنان وأماكن أخرى يصعب اغتيالهم جميعاً.
بيروت غير محصنة لمثل هذا السيناريو، في حين مسار الأحداث والتطورات يمهدان لتحوله إلى حقيقة. استحالة تطبيق القرار «1701» للأسباب المتعلقة بـ«حزب الله» والتفريغ الممنهج للمؤسسات الدستورية والأمنية، يعبّدان الطريق لتمكين الممانعين في لبنان – الساحة، ما سوف يضاعف مخاطر انتقال الحرب بعد توقفها في غزة إليه على الرغم من المحاولات الدؤوبة أميركياً وأوروبياً لتجنبها والحؤول دون الحرب الإقليمية.
بتسوية للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني أو من دونها، يصعب انتشال لبنان من الحضن الإيراني ومحور الممانعة، ومن تحوله منصة إلى «طلائع طوفان الأقصى» وأمثالها عسكرية كانت أو شعبية، وهي خطوة إلى الوراء تضاف إلى ما سيحصده «حزب الله» من سطوة ومكاسب بعد حرب غزة وقبضه ثمن دوره المساند لـ«حماس» بعد تسويقه كإبعاد كأس الحرب المرّة والموجعة عن لبنان واللبنانيين.