في الآونة الاخيرة برزت مسألة مرفأ بيروت الى الواجهة من خلال جدوى أو عدم جدوى ردم الحوض الرابع، فتذكّر الناس أنّ لبنان استورد بأكثر من عشرين ملياراً وصدّر حوالى الثلاثة مليارات في الـ2014، فأصبح من الاسهل تسليط الضوء على بعض ما يحصل في لبنان أخيراً والضجّة بالنسبة للتهريب والتأخير والرشاوى في المرفأ، وإخضاع كلّ المستوعبات للخط الاحمر مع ما يسبّبه هذا من تأخير في عمليات الاستيراد والتصدير، لا يستطيع المهتمّ بالشؤون الاقتصادية إلا أن لا يدخل كطرفٍ في مسألة جوهرية وهي الرقابة. وهل الرقابة السابقة أفعل من الرقابة اللاحقة او العكس؟
بعد الحرب العالمية الثانية، برزت الموضوعات التي تهتمّ بحقوق المستهلك ومن خلالها كان موضوع الرقابة وما هي أفضل وأفعل الاجراءات الرقابية التي يجب اعتمادها في المجتمعات الحديثة والتي تحترم المستهلك وحقوق المستهلك والحق الانساني اجمالاً.
الموضوع الآخر وقد يكون الاهم، أصبح من المسلَّم به أنّ الوقت قد يكون السلعة الاغلى ثمناً وسلبها من المستهلك هي كسلب المال، وبالتالي من المؤكد أنه يجب إنهاء المعاملة بأسرع وقت ممكن ويُعتبر التأخير غير المبرَّر بمثابة رشوى يُحاسِب عليها القانون.
الحوار أخذ عشرات السنين وكلّ المدارس الاقتصادية وصلت الى قناعة بأنّ الرقابة اللاحقة هي الاجدى والأفعل والأكثر توفيراً للوقت، المثال على ذلك، الحواجزُ الثابتة والجميع يعلم أنّ المهرّب دائماً يستطيع أن يعالج مشكلة الحاجز الثابت، فغالبية العالم المتمدِّن اعتمد على الرقابة اللاحقة وبالطبع لم يتمّ الاستغناء عن الرقابة المسبقة كلياً، ولكن اصبح الاعتماد أكثر فأكثر على الرقابة اللاحقة.
فلنأخذ كمثل عمليات الاستيراد، المسؤول عن التصريح ليس فقط صاحب البضاعة ولكنّ المخلّص الجمركي هو مسؤول كمسؤولية صاحب البضاعة، ومن شبه المستحيل أن تدخل بضاعة الى لبنان، ويختفي صاحبها أو مخلّصها. ومن الممكن أن تكون الرقابة اللاحقة أجدى وأفضل.
كذلك لا بدّ من التذكير بأنّ كلّ تأخير في تخليص المستوردات يرفع الاسعار على المستهلك. وهذا لا يناقضه أحد لذا من المهمّ جداً الرقابة على المستوردات ومن المهم ايضاً الحفاظ على اقلّ كلفة ممكنة وإقفال الابواب على الرشاوى قدر الامكان، وهنا لا بد من التذكير بأنه يوجد بضائع استهلاكية كثيرة تُصنع محلياً ولا تُستورد ولذلك أهمية الرقابة اللاحقة التي تطال المنتج المحلي والمستورد.
جاء القرار الاخير بفرض الخط الاحمر أيْ الرقابة السابقة على كلّ المستوردات والصادرات من والى لبنان ليصبح معدل بقاء المستوعبات في المرفأ أكثر من 12 يوماً كمعدل وسطي.
فالسؤال هنا هل إنّ هذا هو الحلّ الافضل لإيقاف عمليات التهريب والرشاوى والابتزاز في المرفأ. كلّ التجارب والدراسات في كلّ دول العالم أثبتت أنّ الرقابة اللاحقة هي الحلّ أمّا لعبة عضّ الاصابع بتأخير التخليص، فهي لا تفيد إلّا مَن يرتشي لأنّ اليوم أصبح المستورد مستعدّ أن يدفع مبالغ أكثر مما كان يدفعها لتأمين بضائعه في الوقت المحدَّد خصوصاً إذا كان مهدَّداً بالانقطاع.
فلنمرّ مروراًَ سريعاً على الاجراءات المعتمدة في الرقابة اللاحقة، إنه من الضروري والطبيعي أن يمرّ كلّ ملف على الاجهزة الرقابية مسبَقاً للتأكد أقله من سلامة الشكل (أيٍْ البند الجمركي المعتمَد والنسب المدفوعة وإذا كان الصنف خاضعاً لفحوصات مخبرية أو غيرها…
(يتحمّل المستورد في لبنان كما في كلّ بلاد العالم المسؤولية كاملة بالنسبة للتصريح عن البضائع ومواصفاتها وكميّتها الخ….) وبالطبع تمرّ كلّ المستوعبات من دون استثناء على قبّان للتأكد من الكميات وعلى السكانر والكلاب البوليسية للتأكد من عدم تهريب ممنوعات.
أما التأكد والتمحيص والفحوصات وغيرها إذا كانت ضرورية، يتم اجراؤها ولكن بعد «تسريح» البضاعة الى اصحابها، وتكون الغرامات قاسية وقاسية جداً إذا كانت البضائع تختلف عن التصريح بعد الكشف عليها داخل السوق، ولا يتمّ تأخير خروج البضائع لحين الانتهاء من كلّ الفحوصات، هذا هو الاسلوب المعمول به عالمياً وهو من دون أدنى شك أعطى نتائج لابأس بها، لا بل افضل بكثير من النتائج التي توصّلنا اليها في لبنان من خلال الرقابة السابقة ومنع المستورد من الحصول على بضائعه إلّا بعد الانتهاء من كلّ الروتين الاداري القاتل.
وإليكم قصة رعب لا يصدقها الخيال، إذا قرّر صناعي إعادة استيراد بضائع لبنانية كان قد تمّ تصديرها سابقاً من لبنان، فالجمارك في لبنان لا تميّز بين بضائع تمّ استرجاعها لأنها رفضت من سلطات البلد المصدّرة اليه، عن البضائع التي دخلت الى البلد ولا يوجد فيها أيّ عيب ولكن يتمّ استرجاعها بعد مدة لأسباب تقنية أو مالية.
لا بدّ من سرد هذه القصة لنلفت النظر الى مدى تأثير الاجراءات المتبعة في الاقتصاد الوطني، بضائع أُعيد استيرادها من الكويت من مصنع كان قد صدّرها الى هناك، فوصلت الى لبنان بتاريخ 22/12/2014، وما زالت تتمتّع بالطقس الجميل على شاطىء البحر الى يومنا هذا، فبعد أكثر من 40 يوماً تمّت إحالة المعاملة الى وزارة الاقتصاد التي استغرقت 15 يوماً لفحص المستوردات المذكورة.
(فحص الاشعاعات النووية)، أما هذه المستوردات فقد تمّ ارجاعها لاسباب تقنية /مالية وهي ليست مرفوضة في الكويت أبداً وقد مضى على وجود بعضها في الكويت اكثر من سنة.
والمطلب الاول الغريب العجيب من الجمارك كان طلب كتاب من المستورد في الكويت للتأكيد بأنّ البضاعة لبنانية وبالطبع يجب أن يكون الكتاب نسخة أصلية وليس بريداً الكترونياً وهذه معزوفة معروفة في الجمارك، علماً أنّ هذا الموضوع التأكد منه سهل من خلال معاينة البضاعة المدوَّن على كلّ قطعة منها ومن ضمن قالب تصنيعها أنها صنعت في لبنان ولا تستوجب هذه الاجراءات التي تسبب المزيد من التأخير،
فقصة الرعب لم تنتهِ بعد وانقضت فترة الشهرين وما تزال الامور عالقة وأخيراً أيْ بتاريخ 2-3-2015 جاء فقهٌ جمركي جديد بأنّ بعض هذه البضائع كان قد تمّ تصديره الى الكويت سنة 2013 لذا يجب دفع رسوم الجمارك، ولكنّ كلّ المستوردات من الكويت معفيَّة من الجمارك اذا كانت كويتية المنشأ فكيف بالحري أنها واضحة كعين الشمس لبنانية المنشأ، سفسطة لا علاقة لها بالقانون استغرقت أكثر من شهرين، نعم هذا في لبنان، نعم في العام 2015.
لقد قدّرنا بأنّ معاملات الاستيراد من خلال مرفأ بيروت ما بين الرسوم والمصاريف والتأخير والرشاوى طبعاً تزيد على اسعار السلع بين 1.5% و 2%، هذا اذا كانت المعاملات نظامية أما بالنسبة للتهريب فقد سمعنا من المسؤولين عن ارقام يشيب لها الرأس ولكنّ كلفة تخليص البضائع في لبنان هي دون شك من الاعلى في العالم، وهنا أتكلّم عن المعاملات الشفافة والنظامية فرسوم المرفأ التي يدفعها المستورد حتماً هي الاعلى في العالم ولا تدخل الى خزينة الدولة أما المصاريف الاخرى فالجميع يعرف كيف تُدفع؟،
فإذا استطعنا إيقاف الابتزاز والتهريب وإعادة النظر برسوم المرفأ والتي هي في الواقع رسوم جمركية متسترة وراء رسوم مرفأ ونستطيع أن نزيد الـ TVA الى 12% من دون زيادة اسعار السلع الاستهلاكية على المواطن، نعم أعني ما اقوله.
نحن نفهم ونحترم ما يقوم به معالي وزير المالية ولكن من المفروض أن نتعلّم من تجارب الماضي ونحن معه بأنّ كلّ آلية الاستيراد والتصدير بحاجة الى إعادة هندستها وكتابة إجراءات جديدة من فريق من المتخصصين شرط أن لا يتدخّل أحد من الموظفين الحاليين، لأنّ بعضهم قد يكون من المستفيدين أو من أصحاب عقلية الكتبة والفريسيين وهؤلاء لا يمكنهم كتابة إجراءات سريعة وشفافة وفعالة، والأفضل اعتماد لجنة من المستشارين والمتخصِّصين الذين يمتلكون خبرة في عمل المرافئ حول العالم لننقل لبنان من التعثّر الى الفعالية الحقيقية. الامثلة كثيرة من جبل علي وصولاً الى المرافئ الاوروبية. الرقابة اللاحقة أفعل وأجدى وتخيف المهرّب، فلنعتمدها.
جمارك دبي أطلقت مبادرة مبتكرة للارتقاء بكفاءة الأداء الجمركي في دبي عبر تطوير نظام التدقيق الجمركي اللاحق وهو النظام المختص بالتدقيق اللاحق على الشحنات التجارية بعد إنجاز المعاملات الجمركية، حيث تُعدّ هذه المبادرة من مبادرات التطوير الرائدة في مجال التدقيق اللاحق وهي المبادرة الأولى من نوعها على مستوى الوطن العربي. عسى أن نتعلّم.