من مستحيل المستحيلات أن تجمع «زهوراً» من حولك يا دولة الرئيس تحت عيون فرنسا ومصر والسعودية وسوريا وإيران وأميركا وروسيا وفلسطين وسفراء دول العالم في مزهرية واحدة تحطّمت أو حطّمها يا دولة الرئيس وأنت النبيه بالإجماع، ولو سبق أن فاحت الزهور بروائحها اللامتناهية وألصقوها بحليب التين، فإنّ روائح القمامات السياسية والاقتصادية وكوارث إسرائيل في ليلتين جعلت العالم لا ينام وكأنها طمرت كرامة بيروت ولبنان أقوى وأخطر بكثير وقد أزكمت أنوف دول العالم.
ليس سهلاً أن تخترع داخلاً لوطن جديد أو يبدو لك مجدداً مع ان لا داخل واحدا له أساسا ولو جاهر متحاوروه بالشتائم والسباب والبقع اليومي بأن حوارهم سيصنع في لبنان المستورد اليوم من عواصم الدنيا وهم سيصنعون واهمين رئيسهم ومستقبلهم ومستقبلنا في لبنان.
من يقدر في الدنيا على جمع غلاة زعماء الطوائف المتنوعة المتلحفة بالأحقاد والعدائيات والأحقاد والأسلحة حول طبق من قش وابريق من الشاي؟
يتباهى اللبنانيون بوطنهم الذليل المقيم في الفصول كلها، وحولهم الأشقاء العرب كروم عنب وعطاءات مقيمون في قلب الشمس، يتطلعون بحرقة إلى قاطني هذه البقعة الخضراء السوداء التي تلتحف بالدماء والقتلى في العراء.
دفعة واحدة تراهم هبّوا بحثاً عن «ربيع سخيف لبيروت» أن يصل بعد. أي ربيع أو صيف هذا وكأنهم وهم قرفوا منا سفراء ومبعوثين وأغرتهم أطباقنا وشقوقنا وهم يتصنّعون بأنهم نأوا بأنفسهم أو شاحوا عنا وعن مآسينا وتفاعلاتنا المخجلة بأبصارهم.
أيلتحقون بمواكب الدم الكثير المستورد والسلاح المستورد والكلام المرتجل والمستورد الذي ينسف هدأة الطفل في السرير وعجب العرب والمسلمين واحتقار دول العالم وكأن لبنان صار يهدّد حضورهم وكبريائهم؟
أكثر ما يغيظك فيما يحصل، نفض بعض الرموز للغبار عن شعاراتهم وخطبهم التي تستعيد أفكار الثورة والتغيير التي دفنت في مقالعها اساسا، وركوبهم الموجات الصفراء المهاجرة والمقروءة تعجباً في ملامح شباب وشابات لبنان العفوية بحثاً عن أشباه أوطان وجزر وأرصفة في الأرض. تغيير؟ أي تغيير بعد كل ما يحصل حتى الموت اليومي صار في لبناننا من دون احترام الألف واللام.
وإذا كانت هذه التصريحات والمناكفات مقيمة بينكم تتم فيما الحطب ما زال أخضر، فما المنتظر حصوله بعد أن يجف وستلامسه النيران؟
صحيح أن اللبنانيين أطفال مفتونين عبر وسائل التواصل الاجتماعي وأسواق المعلومات والأخبار والصور والأسرار المفتوحة عبر أطراف الأنامل التي تدفعهم للارتماء فوق أحلام أو أوهام الحرية والثورات لكنها عادات تقلص البرودة في عقول بعض القادة المعزولين في قصورهم ومهازلهم وتجعلهم مربكين أمام مراياهم.
السبب أن لبنان ليس دولة مديونة بل منهوبة بمليارات الدولارات من الجهات المحلية السبع المعروفة بالألسنة والدفاتر المخفية.
عندما كانت تبشّر رفوف السنونو بقدوم الربيع، يظهر فوراً طائر أسود اللون طويل الجناحين قصير الرجلين يطير بسرعة جنونية ليذعر السنونوات ويخفيها في أعشاشها والشقوق المتيسرة ويسمّى الخطاف الذي خطف اللقمة والأنفاس من حجرات وجوهنا.
وعندما يسأل البعض: لماذا لا تقبض الدولة على الخطافين؟ يحضر الجواب مبهماً لا يميّز بين هوية السنونوة وهوية خاطفها.
تنافس السياسيين هو العنوان المرّ القبيح الذي يمكن أن نقترحه لمشهد لبنان المسجون بين أحلام السنونوة وشراسة الخطاف ومزهريات الحوار التي عشقتها.
يملأ المشهد الساحات بالمتظاهرين والمعوزين والجائعين والهاربين من أوطانهم والذين عبأوا عوالمنا بصراخهم وشعاراتهم الحافلة بالشتائم قافزين فوق السطوح بحثاً عن وجه جديد للبنان. وجه يمتلئ بالحزبيين ومناصري الأحزاب التقليدية الدهرية أيضاً يراكمون لوائح من المطالبات الاجتماعية والمعيشية وإخفاقات هائلة وطنية مزمنة وثقيلة في إيجاد حلول جذرية لقضايا أقل من بسيطة كان آخرها تراكم النفايات في الشوارع والساحات والبحار وكأنها لدى المسؤولين القشة التي ان تقصم ظفر البعير.
وما يغيظك ثانياً بحثاً عن حلول لهذه المعضلة تصريحات جهابذة لبنان وقد أكلوه وشربوه بالبحث عن «خريطة الطريق» الضرورية لمعالجة الوضع.
ما أبشع هذا المصطلح السياسي المستورد والمجوّف الذي التصق بألسنتنا في حل قضايانا الكبرى والصغرى؟
أنسينا من يرسم الخرائط ويلوّنها بعد سحبها من الأدراج وتنظيفها في زمن الكوارث والمؤامرات القاتلة؟ وهل يحتاج المسؤول، أي مسؤول لبناني فعلاً، إلى وضع «خريطة طريق» لرفع القمامات المتعددة المشارب من أصغر عاصمة عربية اسمها بيروت؟
وجدت بعض الشاشات التلفزيونية المهدّدة بالإقفال في لبنان، ضالتها في الساحات بعدما شحّت مصادر التمويل لأن أصحابها سبقونا إلى الفضاء وتمكّنوا من التكنولوجيا وأهميتها معارك المحن الزاحفة. والأرجح أنهم بدأوا يعرضون، وهذا أمر طبيعي ومتوقع، عن لبنان الـ«ميديا ستيت» Media state أي بلد الإعلام وكأنه اسواق دفع وقبض وعري وجخ.
صدّقوني، لم يعد لبنان حاجة عربية ولا بلد الإعلام. فات أصحاب الشاشات أن المشاهدين اللبنانيون غارقون في شاشات العرب والعالم أكثر مما هم مسمّرون على مشاهد الانشقاقات والكيديات ونسوا كيف راحت الشاشات تستغني عن خدمات الكثير الكثير من موظفيها بسبب الضائقة المالية في زمن ضمور المال والنقابات كي يدخل عالم الأخبار المتنامية كما أسواق الفواكه والخضار. بهذا المعنى، نفهم تنافس الإعلاميين على استعادة الجماهير، بهدف إغراء المعلنين وبانتظار الإعلانات. كان هناك مغالاة إعلامية في إظهار الوطن الساحة أو المعبر الضيق أو الطريق السوق الذي تقف عند نهايته طائرة تدعو اللبنانيين إلى المغادرة. فعدو لبنان الحقيقي هم اللبنانيون.
إلى أين من هنا؟
إلى مبادرة رئيس مجلس النواب الحوارية، وهي مبادرة معطوفة على مناخات مشابهة اعتدناها منذ الـ2006 بعد اغتيال الرئيس الحريري ثم في قصر بعبدا وعين التينة وبين عون وجعجع.
ماذا ننتظر من هذه المبادرة الجديدة التي أجهضت في الحوار؟
لا يعني صف رؤساء الكتل أو النواب وجمعهم أو استوائهم أمام مزهرية شتاء حافلة بالأشواك فوق طاولة مستديرة أو بيضاوية الشكل ضامنة لحتمية الحلول أو زرع المودة الوطنية أو ردم الهوات المزمنة هنا. ولا تعني مصافحة الزهور الذابلة بشوكها وتداخل روائحها المتعددة التي مج روائحها الناس ضرورة أن تأتي عطورها متناغمة تنعقد في رائحة واحدة تتلهف إلى استنشاقها رئة اللبنانيين في تطلعهم إلى السلام والعيش والكرامة في وطن منخور متخم بالنفايات المتعددة الآراء والأوصاف، أو منعقدة في ثمار تعفنت في مفاهيم الوحدة الوطنية التي لم تملأ فراغات بعبدا وتعطيل البرلمان والحكومة المختصرة التي تصدّق نفسها أن شرع اللبنانيون أفواههم ومسام أجسادهم طمعاً بها وتطلّعاً إليها أو قبضوها.
إن كمية الشوك النابت في أعناق الزهور وتحت الطاولات لا في أوراقها هو الجوهر في لعبة الزهور الدامية، ونوعية الماء في المزهرية التي لا يمكن أن يحجب عن دول العالم هذا التوحل السياسي ولا نتانة روائحه بعدما أفسد الماء الوطني.
والأهم من هذا كله المناخ العام الذي يتحكّم بحياة الزهور ومدى ديمومة روائحها في الأرجاء وهو مناخ يحمل الوحشية الإسرائيلية والقبور والجرحى والعواصف والرياح والأمواج العاتية المحلية والمستوردة لا العقل والهدوء والصفاء والرويّة والعقلانية والحكمة مؤقتاً، وفي الحالين تبدو «الزهور» السياسية اللبنانية من فصيلة الأشواك المذهبية الحقيقية التي أدمنت الخرائب وهي في انتظار المزيد من الوعورة والقتال في المحيط.
لا يعني هذا القول التقليل من أهمية الحوار وما ينتظره اللبنانيون منه، بل يعني أن ثمرات الحوار تكمن في استحالة حصوله مع أن الزهر الشتوي لم ولن يعقد في الخريف والشتاء إذ يراهن العديد من «جهابذة الرفض في لبنان» على زهور الربيع العربي الذي لا يعقد سوى في جيوبهم وخزائنهم وحساباتهم في المصارف خارج لبناننا لا لبنانهم. هذا يعني أن يمسح كل متحاور عرق جبينه ويتلمّس شرايين عنقه قبل أي سلوك أو انفعال.
من يقدر دولة الرئيس على فصل كوارث الداخل اللبناني المتعفن عن الخارج كل خارج خارجي سفيرا أو مبعوثا يجعلني أرى لبنان سبحة تتلهى بها أصابع المبعوثين ذهابا وإيابا وتكريما وضحكا على ذقون لبنان واللبنانيين الباقين في لبنان هذه الأيام؟ أرجوك حطّم مزهريتك واقفل بابك يا دولة الرئيس.