IMLebanon

الحوار المستحيل في غياب السُّنّة ومعارضة المسيحيين

 

نُقِلَ عن البابا فرنسيس قوله إلى محدّثه اللبناني في أثناء مناقشة مبادرته للسلام العالمي أواخر آب الماضي: «كيف لي أن أساعدكم، كيف لي أن أساعد لبنان؟ قولوا لي، فأنا جاهز للمساعدة في أي وقت، ومستعد للقيام بأي شيء في سبيل لبنان… إنتخبوا رئيساً وشكّلوا حكومة وبعد ٢٤ ساعة ستجدونني بينكم في بيروت». ولم يخفِ رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم خشيته من عدم التمكّن من زيارة لبنان مجدداً، وحزنه لعدم اقتراب الحلول المرجوة في أيلول. ونُقِلَ عن المفسّرين والمؤوِّلين من جهابذة الأحزاب اللبنانية لكلام وموقف البطريرك الراعي من تأييد الحوار الذي دعا إليه رئيس مجلس النواب نبيه بري تفسيرات وتأويلات كافية في تناقضاتها للتأكيد على استحالة الحوار اللبناني ذي السبعة أيام الذي دعت إليه الرئاسة الثانية قبل عقد جلسات متتالية ومكتملة النصاب لانتخاب قيصري للرئيس العتيد.

التمسّك بالأمل والحاجة إلى إحداث أي خرق على مستوى انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية أسال حبراً رئاسياً كثيراً مع تزامن قدوم آموس هوكشتاين مستشار الرئيس الأميركي لأمن الطاقة العالمي، وحسين أمير عبد اللهيان وزير الخارجية الإيراني، وزيارة السفير السعودي وليد بخاري لمقر البطريركية المارونية في الديمان والتأكيد على ضرورة إنجاز الاستحقاق الرئاسي في أسرع وقت وإنقاذ لبنان من خلال تعزيز وحدته الوطنية وتمتين علاقاته مع محيطه العربي. الرئيس بري عاد وأكّد على مبادرته الحوارية والرئاسية التي استبق فيها عودة المبعوث الرئاسي الفرنسي لودريان بعد فشل المسار الفرنسي والخماسي، واصطدام خطاب الإليزيه المستجد بوجه إيران وتحميلها للمسؤولية – ربما لإشراكها في الحل لا لإحراجها – عن طول الأزمة بحائط مسدود، وتعرّض المبادرة الفرنسية الداعمة لانتخاب رئيس تيار المردة سليمان فرنجية إلى نيران صديقة من قبل الحزب المسيحي المعارض والأقوى في كلمة رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع في قدّاس ذكرى شهداء المقاومة اللبنانية في معراب حيث قال: «إلى أصدقاء لبنان في الخارج الذين يحاولون مساعدته… كنا ننتظر منهم مساعدة أكثرية اللبنانيين الذين يتشاركون معهم القِيَم نفسها لبناء الدولة ومؤسسات فعلية في لبنان، وكي يسود حكم الدستور والقانون، بدءاً من انتخاب ديمقراطي وفعلي لرئيس الجمهورية في المجلس النيابي اللبناني، تبعاً لما يقتضيه الدستور… بدلاً من مجاراة الفريق الآخر بخزعبلاته، تارةً بمقايضة رئيس الجمهورية برئيس الحكومة، وطوراً بتخطي الدستور وقواعد اللعبة الديمقراطية الفعلية وتخطّي المجلس النيابي عبر صفقات جانبية يطلق عليها زوراً إسم حوار».

واضح أن كل التقاطعات الداخلية والخارجية حول ضرورة انتخاب الرئيس في أسرع وقت – مع تفضيل جعجع لاستمرار الفراغ الرئاسي لسنوات طويلة عن الإتيان برئيس جهنمي جديد – ليست كافية بالمرّة لإتمام هذا الاستحقاق قبل دفع أثمان عديدة في مختلف الساحات والملفات من طهران إلى بغداد وصنعاء ودمشق وصولاً إلى بيروت، وفي ظل مشهد سياسي هلامي يستحيل معه تصوّر عقد حوار وطني حقيقي بالشكل الذي يتم الترويج له خلافاً للواقع المليء بعناصر الإطباق على ما تبقى من هياكل مؤسساتية مهترئة للدولة اللبنانية بفعل الممارسات المافيويّة المحليّة، والسياسات الدولية الجائرة بحق لبنان، وتراكم الفشل الكبير على مستوى المبادرات والحوارات والضمير والأخلاق والمسؤولية والإدارة، وفتح صفحات التاريخ والحاضر الإجرامي لكل فريق من قتل وتهجير واغتيالات وتدمير مشروع الدولة عند كل محطة تعلو فيها مصلحة الحزب أو الميليشيا أو الدويلة على حساب لبنان الشعب السيد الحر والمستقل، ودولة الحضارة والقانون والمؤسسات. وهذه بعض عناوين الفشل على مستوى الحوار والرئاسة وتشكيل الحكومة القادرة على تنفيذ الإصلاحات وإنقاذ البلد من المصير الكارثي الذي وصل إليه بعد ست سنوات من العهد القوي (الأسوأ عبر التاريخ) وسنوات الفراغ قبله وبعده:

• فشل المبادرات الفرنسية المتحوِّرة منذ تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب ٢٠٢٠، وقبول الإليزيه بتشكيل حكومات خاضعة لسيطرة ونفوذ إيران في ظل تشابك المصالح بين باريس وطهران، وهو ما أدّى إلى تعميق وتسريع الانهيار في بنيان الدولة وهياكلها الاجتماعية والسكانية.

• فشل الدبلوماسية الفرنسية في سياساتها الفردية والجماعية بما في ذلك دورها ضمن المجموعة الخماسية إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية ومصر وقطر، واستسلامها أمام قوى الأمر الواقع في لبنان، واصطدامها بالمكوّن المسيحي والصديق التاريخي لفرنسا بفعل السياسات والقرارات المنحازة لرؤية ومصالح فرنسا في الحل ولو كان ذلك على حساب لبنان الشعب والدولة.

• فشل المجتمع الدولي ومسؤوليته الأكيدة عما وصلت إليه أوضاع النازحين السوريين في لبنان، والموقف الحاسم من قبل الكنيسة المارونية التي أدانت المواقف الدولية التي ساهمت بشكلٍ أو بآخر بتحويل وجود النازحين السوريين وتضخمه إلى احتلال للبلاد على حساب غالبية اللبنانيين وأجيالهم المدفوعة بشكل شبه كامل وقسري نحو الهجرة.

• فشل الحلول في ظل الفيتويات المعلنة وغير المعلنة على المرشحين الجدّيين للرئاسة من ميشال معوض إلى سليمان فرنجية إلى جهاد أزعور وقائد الجيش جوزاف عون، والهلامية في رمي الخارج لمسؤولية انتخاب الرئيس على القوى المحلية، أو في ادّعاء بعض الداخل في القدرة على الانتخاب باستقلالية عن الخارج، في حين يكمن الواقع الثابت تاريخياً في تبعية هذه القوى وارتهانها بمعظمها إلى سياسات الخارج ولا سيما في الشأن المتعلق بانتخاب رئيس للجمهورية.

• فشل أي حوار لا يجمع كافة القوى الأساسية في المجلس النيابي ولا سيما الكتل المسيحية الكبرى المتمثلة بكتلة الجمهورية القوية وتكتل لبنان القوي، وأي حديث عن نجاح حوار حزب الله – التيار الوطني الحر في إقناع الأخير بالمشاركة في حوار الأيام السبعة المزعوم لا يمكن أن ينتج عنه نجاح فعلي لحوار بين أطراف المحور الواحد؛ الثنائي الشيعي حركة أمل وحزب الله إلى جانب الفريق المسيحي المسؤول عن قيادة لبنان في عهد الرئيس السابق ميشال عون من قصر بعبدا إلى جهنم.

• الفشل على مستوى التوافق الوطني بسبب غياب المكوّن السنّي القوي الناتج عن تعليق الرئيس سعد الحريري عمله السياسي، وفشل الدعوات إلى التسوية والتوافق على خيار ثالث للرئاسة بانتظار تطور الأحداث في المنطقة ومسار الإتفاقات السعودية – الإيرانية، والإيرانية – الأميركية قبل نضوج التسوية الرئاسية والحكومية في لبنان، والتي يرجّح تأخيرها مع فشل انتخاب الرئيس في أيلول، أقلّه إلى نهاية العام الحالي أو بداية العام القادم.

وهكذا مع استحالة عقد الحوار الوطني بين كافة المكوّنات والقوى الأساسية في البلد، والإمعان في خرق الدستور، ومع انعدام الرؤية لدى قوى السلطة القائمة على الانهيار في لبنان، وحقيقة وجودنا كشعب – وبأيدينا – في آخر اهتمامات الدول المعنية برسم خرائط البر والبحر والنفط، يبقى لبنان بلا إصلاح وبلا إنقاذ، ولا رئيس ولا من يحزنون.