في ظلّ التطوّرات الميدانية في الجرود السورية المقابلة للحدود اللبنانية، هذه مقاربة تحليلية عسكرية مع خلاصة تتعلّق بالأهداف المحدَّدة من «حزب الله»، وأفضل الاستراتيجيات له وللوطن، في ظلّ الظروف الموضوعية المقبلة على المنطقة.
لا خلاص للحزب إلّا ضمن الكيان اللبناني ولا بديل
عن الحوار الصادق والصريح حرب الإستنزاف في مراحلها الأولى ولا يستطيع أيّ طرف إعلان نهائية سيطرته على أيّ بقعة
سوف نُقسِم هذه الجرود إلى أربعة أقسام: القسم الأول من جديدة يابوس جنوباً إلى جرود القُصير شمالاً. الثاني من الديماس جنوباً إلى يبرود والنبك شمالاً مروراً بتلفيتا ورنكوس ومعلولا. الثالث والأصغر جغرافياً والواقع بين القسمين الأول والثاني والممتدّ من عسال الورد جنوباً إلى الجراجير شمالاً مروراً بالجبة ورأس المعرة والفليطة. أما القسم الرابع والأخير فيمتدّ من جنوب جديدة يابوس والديماس إلى رأس العين وجبل الشيخ.
على الرغم من أهميّة القسم الرابع من حيث تواصله المباشر مع ما تشهده بقية الأقسام، لن يتمّ تناوله في التحليل اليوم، ذلك أنّ أوراقه غير مكتملة بعد ومن المنتظر أن يدخل إليه لاعبون جُدد محليون وإقليميون وربما دوليون، ما يستوجب مقاربته في مراحل لاحقة بعد كشف بعض الأوراق على ساحات القتال السورية الأخرى.
على المستوى الإستراتيجي، لا شكّ في أنّ لمعركة الجرود بأقسامها الثلاثة وتلالها على طول الحدود اللبنانية – السورية، نتائج وانعكاسات على مسار الحرب في سوريا. فمن يُمسك بهذه السلسلة الجبلية، يُمسك بمُفتاح سهل البقاع الأوسط، ويُمسك بمُفتاح دمشق الغربي، وبمُفتاح حمص الجنوبي، ويُسيطر على طريق دمشق- البقاع، وعلى طريق دمشق- حمص ويتحكَّم بالبقاع الشمالي. وعلى المستوى الإستراتيجي- العسكري، تُشكِّل هذه الجرود خطاً دفاعياً قوياً يحمي سهل البقاع من المخاطر التي قد تأتي من الشرق.
إلّا أنّ المعضلة تكمن في أنّ عملية إقتحام هذه الأقسام وإحتلالها والدفاع عنها تتطلّب إمكانات هائلة، ولاسيما بشرية، الأمر الذي يُقدّر له استنزاف أكبر جيوش العالم فعالية ومعها القدرات الإقتصادية الداعمة لها. إلى ذلك، يتطلّب تأمين النظام الدفاعي المُتماسك، إحتلال كامل هذه الأقسام. فإحتلال أيّ جزء منها، ولو كان كبيراً ومهمّاً عسكرياً، لا يفي بالغرض، بل على العكس، قد يُشكل خطراً أكبر على كلّ مَن يُغامر في هذه الجرود.
ولا يُمكن مقاربة معركة الزبداني القائمة اليوم وكأنّها معركة مستقلة ومعزولة. إنها من دون أدنى شك جزء مهمّ وحاسم من المعركة على القسم الأول، بحيث تُشكِل مع جديدة يابوس وكفر يابوس وعين حور وسرغايا، الطرف الجنوبي للقسم الأول.
وهي أيضاً جزء مهمّ ومتماسك من القسم الثاني. فلا يمكن التطلع إلى الزبداني كجزء مستقلّ عن إمتدادها الشرقي في إتجاه مضايا، والديماس، ودير مقرن. وهي بالتالي تُشكِّل مع هذه المرتفعات الطرف الجنوبي للقسم الثاني.
من هنا نرى أنّ معركة القلمون وحماية سهل البقاع الشمالي (والأوسط الآن مع فتح معركة الزبداني) جزءٌ بسيط من الغاية الإستراتيجية المرجوّة والمطلوب تحقيقها في الدفاع عن سهل البقاع ضدّ المخاطر الوجودية التي تكلم عنها الأمين العام لـ»حزب الله» وكادراته. وهي وبلا أيّ شك تُمثِّل أهمیة كبیرة للحزب وتُشكِّل مركزَ ثقل نوعيّاً إستراتیجيّاً له. وقد أعدَّ الحزب نفسه لهذه المعركة الطویلة وأخذ قراره بخوضها مهما بلغت التضحیات. وإذا ما تمعَّنّا في التطورات العملانية على ساحات القتال، نرى أنّ ما فعله «حزب الله» حتى الآن هو السيطرة على القسم الثالث. وهي خطة عملانية ذكية جداً وسليمة في المعركة على القسم الأول بلا جدل. فالسيطرة على القسم الثالث تؤمّن الجانب الشرقي لجرود عرسال مع ضبط جَيب الجراجير- البريج. وقد ضيَّق «حزب الله» بذلك الطوق على المسلحين في جرود عرسال ودفعهم في إتجاه الجيش اللبناني. وأثناء مسعاه هذا في السيطرة على القسم الثالث، عمل الحزب على عزل الزبداني- سرغايا عن الجزء الشمالي للقسم الأول. ولهذا السبب، كان متوقَعاً أن يوجّه الحزب جهده الرئيس إلى الجزء الجنوبي من القسم الأول، أيْ الزبداني، بعد إحتلاله للقسم الثالث، للأسباب الآتية:
1- حجم الإمكانات المادية البشرية الهائلة الذي تتطلّبه معركة جرود عرسال.
2- صعوبة الطبيعة الجغرافية والمناخية في هذه الجرود.
3- بقاء الطرف الجنوبي من القسم الأول (سرغايا- الزبداني) شوكة في خاصرة «حزب الله» في القسم الثالث.
4- قرب سرغايا- الزبداني- جديدة يابوس من البقاع الأوسط «السنّي»، ومن القرى الشيعية في البقاع الأوسط – الشرقي (رعيت- النبي شيت- جنتا)، عقر دار «حزب الله».
5- التهديد الدائم المتأتي من هذا الطرف الجنوبي لطريق دمشق- بيروت.
6- وجود تواصل بين النظام السوري وأهالي تلك المنطقة وتبادل مصالح بحيث يقبل وجود المعارضة المسلحة السورية بشقّها الوطني مقابل تأمين وصول مياه الشفة من منابعها إلى دمشق، مع منع العناصر الغريبة من اللجوء إليها أو من التمركز فيها.
بطبيعة الحال، يبدو أنّ الوضع قد تغيَّر بعد إنسحاب جزء من المسلحين من جرود عرسال ومن القسم الثالث الى داخل منطقة سرغايا- الزبداني، وربما جنوباً في إتجاه جديدة يابوس. وقد زاد تموضعهم الجديد هذا من تهديدهم لطريق دمشق- بيروت، وأيضاً لأمن وسلامة القرى الشيعية القريبة من الحدود اللبناية – السورية (رعيت- النبي شيت- جنتا)، وسهَّل تواصلهم مع العمق السنّي في البقاع الأوسط. ويبقى الأهم أنّ تموضعهم هذا زاد من إحتمال تواصلهم مع المُسلحين في القسم الرابع وفي القنيطرة، ومن إمكانية تنسيق عملهم العسكري مع الجبهة الجنوبية.
وفي عودة إلى ما تتطلّبه خطة بناء خط دفاعي متماسك في هذه الجرود، وما تتضمَّنه من مخاوف ومخاطر عدة، نجد الآتي:
أولاً، لناحية الإستنزاف المادي والبشري لكلّ مَن يُغامر في مهاجمة وفي إحتلال وفي التمسك بالمدافعة عن هذه الأقسام الثلاثة. ولا يخفى على أحد الآثار المتأتية لمثل هذا الإستنزاف على «حزب الله» وبيئته، في الشقين البشري والمادي، وأيضاً وخصوصاً، لناحية الإستنزاف السياسي والإجتماعي والأمني في محيط سنّي. فلو سلّمنا جدلاً في إمكانية النجاح على المدى القصير، فمن أين سوف تتأمّن الطاقات المادية، والبشرية، والسياسية، والديبلوماسية اللازمة لمكوث طويل وربما مستدام بهدف الدفاع عن هذه المنطقة الواسعة جداً؟
ثانياً، حتى ولو نجح الحزب في هجومه على الزبداني (من المرجح أن ینجح)، وفي خطته المتعلقة بالقسمين الأول والثالث، فطبيعة الأرض تفرض عليه توسيع بقعة عمله وخطِه الدفاعي ليطاول القسم الثاني أيضاً وإلّا بقيَ دفاعه هشاً وغير متماسك، وبالتالي عرضة للإهتزاز. وهذه الأقسام الثلاثة تمتدّ على طول 110 كلم تقريباً وعلى 20 كلم متوسّط عرض من التضاريس الصعبة، وعلى ثلاث سلاسل جبلية صعبة التواصل العرضي والطولي داخلها وبينها، وطقسها صعب جداً، صيفاً وشتاءً.
ثالثاً، على الرغم من أهمية هذه المنطقة في الدفاع عن «الوجود الشيعي» في البقاع، لكنّ الشكل الدفاعي الذي قد تفرضُه هذه السلاسل الجبلية هو أقرب الى الدفاع الثابت (التمسّك بالأرض) منه إلى الدفاع المتحرّك (تدمير الجماعات الإرهابية ومنع إعادة انتاجها أو تشكيلها). ومن هنا، قد يُلاقي هذا الخيار الإستراتيجي مصير خطّ ماجينو، فيكتنفه القادمون من الشرق ويلتفّوا عليه من حمص إلى البقاع الشرقي، ومن حمص إلى وادي خالد- طرابلس.
رابعاً، يستفيد الحزب حالياً من تقاتل وإستنزاف الفرق المسلحة المُتعددة بعضها لبعض، ومن وجود العنصر الغريب في صفوفها وما يخلقه من حساسيات بينها. ولكن يبدو أنّ العملَ جارٍ على توحيد الجبهة السنّية الداخلية في سوريا. عندها، سيكون الحزب أمام جحافل تفوقه عدةً وعدداً وعمقاً استراتيجياً يستحيل معه التمسّك بأرض هذه الأقسام الثلاثة وبالتالي الحفاظ على تماسك منظومة الدفاع عن الجرود وعن البقاع. ومن المرجح عندها أن يكون هذا الخيار الإستراتيجي في الدفاع عن شيعة لبنان معاكساً للطبيعة الجغرافية والديموغرافية للمنطقة.
خامساً، وإلحاقاً بما سبق، يستفيد الحزب حالياً من سيطرة نسبِيّة للنظام السوري على القسم الثاني. ولكن يجب ألّا ننسى أنّ حرب الإستنزاف هذه هي في مراحلها الأولى ولا يستطيع أيّ طرف إعلان نهائية سيطرته على أيّ بقعة. فالقتال والحملات العسكرية يجريان على مراحل. ومن هنا، لا أحد يستطيع التأكيد بنهائية سيطرة النظام على القسم الثاني ولا على طريق دمشق- حمص. فهل يُضطر الحزب إلى القتال على هذا القسم أيضاً؟
سادساً، لا بُدَّ أنّ الشكل السياسي لأرض سوريا سوف يتغيَّر بعد هذه الحرب. من هنا قد يتساءل المحلّلون عن أهمية دمشق بالنسبة إلى العلويين، وعن إلتزامهم وإلتزام النظام الدفاع عن دمشق وعن القسم الثاني. فهل سيضطر الحزب وحيداً إلى تغطية هذه الحاجة والدفاع عن هذه الجرود من دون العلويين؟!
سابعاً، تبقى حمص النقطة الحيوية الأساس ومركز الثقل النوعي الاستراتيجي لما يدور على الأرض السورية. فالتمسك بها من شيعة لبنان ومن علويّي سوريا، يسمح بوصل إمكاناتهم وتكامل طاقاتهم في مواجهة المخاطر الوجودية كما يرونها آتية عليهم. بينما يفتح سقوط حمص في يد السنّة، أبواب البقاع والساحل.
ثامناً، إنقطع تواصل الحزب برّياً مع إيران، مع سقوط صحراء العراق والشام. ومن المرجح أنّ الخط البري الذي يقول كثيرون إنّ النظام السوري يسعى مع الإيرانيين إلى إقامته في إتجاه الساحل السوري عبر كردستان وشمال سوريا بتحالفهم مع أكراد سوريا، لن ينجح. فتركيا في المرصاد. ومن الصعب أن يكفي المدّ اللوجستي بحراً وجواً من إيران إلى الحزب، من ملاقاة حاجات الحزب الحربية على المدى الطويل. وقد تتعقّد الأمور أكثر إذا ما أخذنا في الإعتبار التأثير الداخلي للإتفاق النووي وما قد تحمله الإيجابيات الإقتصادية والإنفتاح الإيراني من ضغوط على النظام الحالي وتغيّرات فيه؛ وبالتالي على الإلتزام الإيرني المُطلق في إمداد «حزب الله» بعناصر القوة اللازمة في حربه «الوجودية».
إنّ الإلتفاف اللبناني حول كنف الدولة يُجنِّب تحوّل الطوائف فيه وخارجه إلى ما يشبه تجارب منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان زمن الحرب، وما فاقت به «داعش» و»النصرة» كلّ التوقعات، ويُسمّى NON STATE ACTORS. وعليه، يجد كثيرون أنّ الإستراتيجية الفُضلى للحزب اليوم وبعد انقشاع المتغيّرات في المنطقة، تقتضي العودة إلى كنف الدولة اللبنانية وللدولة أن تحارب الإرهاب مع التحالف الدولي القائم ضدّه. ولا خلاص للحزب إلّا ضمن الكيان اللبناني. ولا بديل عن العودة إلى الوطن وإلى الحوار الصادق والصريح مع السنّي اللبناني ومع المسيحي اللبناني ومع الدرزي اللبناني لإيجاد المخارج ضمن المؤسسات، بما يسمح بتأمين أمن وسلامة الطوائف جميعاً. وأيضاً، تطوير العقد الوطني بشكلٍ يؤسّس لجمهورية ثالثة ذات أرض وكيان مُستقل، يتفاعل معها المجتمعان الإقليمي والدولي كما يُفترض أن يكون التفاعل، وتفي بطموحات جميع المكوّنات اللبنانية.
* من مؤسسي فوج المغاوير وقائد سابق للقوّة الضاربة – قائد القوّة المشترَكة لحماية لجنة التحقيق الدَولية في لبنان – الملحق العسكري السابق في واشنطن – مسؤول سابق لأمن اللجنة المشترَكة للأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية في سوريا.