لفت نظري حين مررتُ بالمنطقة الشهيرة بـ”بارْبِسْ” في الدائرة 18 من باريس حيث تجمُّعٌ سكّانيٌّ مغاربيٌّ تقليديٌّ فقير أن حالة الشارع السيئة هي أسوأ من أية مرة شاهدتها سابقاً منذ بدأت أتردّد على المدينة قبل أكثر من ثلاثة عقود. وعدتُ إلى الشارع نفسه مرة ثانية في الأيام لأخيرة لأتأكّد من صحة انطباعي فلم يتغيّر. أرجو فعلاً أن أكون مخطئاً.
القاذورات في “بارْبِسْ” Barbès منتشرة على الطريق الرئيسي. بعض براميل الزبالة إما فائضة على الرصيف أو مقلوبة بما تحمل، بينما ينتشر الشباب “الحيطيست”، أي العاطلون عن العمل حسب التعبير الجزائري الشعبي، قرب جدران الشارع وحول محطة المترو وتجلس أحيانا قربهم بعض النسوة المسنّات المحجّبات على الرصيف. هذه الصورة مختلفة عن المشهد الأنيق لجامع باريس الكبير ومحيطه السياحي في الدائرة الخامسة في مواجهة حديقة “جاردان دي بلانت” حيث المطعم ذو الديكور التراثي الملحق بالجامع الذي يقدّم “الكوسكوس المغربي” الشهي وبأسعار مقبولة قياسا بالأسعار المرتفعة في مطعم مغربي بديكور ألف ليلة وليلة قريب من قوس النصر في الشانزليزيه!
مالك بوتيح هو هذه الأيام نجمٌ في باريس وفي فرنسا. السبب أن هذا النائب (المسلم) في البرلمان الفرنسي في كتلة الحزب الاشتراكي (عن منطقة “ليسون”) كتب التقرير الأحدث، ويبدو الأهم، عن الجيل الجديد الإسلامي في فرنسا وقدّمه إلى رئيس الوزراء مانويل فالس تحت عنوان “جيل راديكالي” في الأسبوع قبل المنصرم ومن المفترض أن يكون قد ناقشه أمس الاثنين مع وزير الداخلية وهو يعلن استعداده لمناقشته حتى مع هيئات عسكرية فرنسيّة. أول من كشف عنه هي صحيفة “الفيغارو” ثم تحوّل إلى مادة تلفزيونية وصحفية واسعة.
إذن نحن أمام جيل لا مجرّد ظاهرة؟
التقرير المبني على الاستماع لشهادات حوالى أربعين شخصا يسجِّل كاتبُهُ عمقَ التأثير الثقافي للجهادية الإسلامية حتى في عائلات ذات أوضاع طبيعية اقتصادية واجتماعية. وهذه ملاحظة خطيرة تطرح مسألة تأثير العامل الثقافي في النزوع الجهادي بمعزل عن الحالة الاقتصادية التي جرى التحليل الكلاسيكي لعلماء الاجتماع على اعتبارها المصدر الأساسي للتطرف الإسلامي. على أي حال هذه إشكالية باتت تتناولها في السنوات الأخيرة اهتمامات المثقفين العرب من حيث السؤال الكبير: هل المشكلة في النص الديني وثقافته أم في الشرط الاجتماعي الاقتصادي المتدهور؟
وإذْ يرى مالك بوتيح أن تنظيم الدولة الإسلامية، “داعش”، هو مصدر الاستقطاب الرئيسي حاليا للشباب الجهاديين الفرنسيين بسبب إغراء الأرض الخاصة بالمشروع التي يسيطر عليها، يحذِّر من أن الظاهرة ليست معزولة أو هامشيّة كما كان الأمر مع الحركات الإرهابية اليسارية المتطرفة (في السبعينات من القرن الماضي) وإنما هي ظاهرة جماهيرية لأن عدد المنخرطين يُقدَّر بـ2000 شاب مسلم فرنسي 65 بالماية منهم دون سن الخامسة والعشرين. لكن باستطاعة المراقب أن يلاحظ أن هذه “الجماهيرية” التي يتحدّث عنها النائب بوتيح، على خطورتها، تبقى ضمن أقلية قياساً بعدد المسلمين في فرنسا التي تحتضن أكبر كتلة مواطنين مسلمين في أوروبا.
فرنسا تتقدّم حضارياً لا شك، وتحمل معها من ضمن من تحملهم في هذا التقدّم الكثير من، بل أغلبية، مسلميها المندمجين في الشرائح الناجحة من الطبقة الوسطى. لكن جوهر الموقف الذي يطرحه النائب مالك بوتيح هو أن معالجة الوضع تتطلّب سياسةً استباقية “لأنه عندما يغرق الشاب في الجهادية يكون قد فات الأوان” معتبراً أن ما يحصل هو رفض شبابي غير هامشي، ولو جزئي، للقيم العلمانية.
الحالة السورية هي اليوم نقطة الاستقطاب الأساسية للجهاديين بمن فيهم الجهاديّون الفرنسيون. هذا يعطينا فكرة حين نعيد ربط الثقافي بالسياسي بالاستراتيجي كم هي معقّدة إثارة الموضوع بعيدا عن مسؤولية الدول وأجهزة مخابراتها. إذ كيف تنفصل فعالية الظاهرة من حيث التنظيم وطرق الوصول والالتحاق عن سوسيولوجيتها؟ أنا أفهم منطقية اهتمام نائب مسلم فرنسي معني ومهموم باندماج المسلمين بوطنهم الفرنسي أن يركِّز على المضمون الاجتماعي الثقافي للحالة الجهادية داخل فرنسا كحالة ذات عوامل داخلية “مستقلة”، لكنْ هل يستقيم هذا البحث، ليس فقط في فرنسا بل في كل دولة أوروبية وحتى غير أوروبية كتركيا، دون التساؤل عن دور التشجيع السياسي للظاهرة في السياسات الغربية الكبرى حيال بلد مثل سوريا؟
بعد تجربة أفغانستان والتنظيم المعلن الغربي لجهاديي تلك الأيام وما أسفرت عنه، هناك تكرارٌ ما بأشكال مختلفة لأفغانستان الجديدة وهي سوريا. بل لأفغانستانات عديدة في العالم العربي اليوم.
على أي حال لم يظهر أفضل حتى الآن في توصيف مفارقة هذه المسألة بين الداخلي والخارجي في الغرب من قول أحد الجهاديين الفرنسيين الملتحقين بالقتال في سوريا بعد مجزرة “شارلي إيبدو” قبل أشهر: طلبتُ أن أذهب إلى مالي لمقاتلة قوات الدولة الفرنسية وإذا بإخواني المجاهدين يطلبونني للالتحاق بسوريا فوجدتُ نفسي حليفا لسياسة الدولة الفرنسية أقاتل “معها”.
على زاوية إحدى الساحات الصغيرة في الدائرة الخامسة في باريس يوجد دكان لبيع اللحوم تحت إسم: “ملحمة المستقبل”
(Boucherie de L’Avenir) هو جزء من سلسلة ملاحم. اسم هذه الملحمة الصغيرة من حيث لم يقصد أصحابها قطعاً، ومن حيث ازدواجية معناه في اللغة الفرنسيّة يفقد مضمونه المهني الإيجابي فيتحوّل سلباً إلى ما يصلح أن يكون استعارةً لعنوان رهيب كبير للعالم العربي في المرحلة الحالية والآتية: ملحمة المستقبل! في منطقتنا حيث يسيل الدم الآن الآن وفي كل يوم بالأطنان. الملحمة وجزّاروها الكثر وضحاياها البشرية من قتلى بعشرات الألوف ومهجَّرين بالملايين.
إنه الدم السائل من العراق إلى سوريا إلى مصر إلى ليبيا إلى اليمن ونسبيا إلى لبنان وتونس ونرجو أن لا تكون المجزرة قد بدأت عودتها إلى الجزائر، لكنْ هذه المرة ليس بين الجيش وإسلاميّي جبهة الإنقاذ وإنما بين الإباضيّين (الخوارج) والسلفيين السُنّة.
هي الملحمة، بمعنييها في اللغة العربية، ذبح اللحوم والنوع الخاص من الآثار الأدبية والشعرية التي هي أيضا مدوَّنات صراعات بشرية كبيرة.
لكن الملاحم – المذابح الحالية في منطقتنا، وامتداداتها لا تدور بين مسلمين فقط. تسجيل هذه البداهة – الحقيقة يجعلنا نتذكّر أن إبادة للمسيحيين تحصل، والبابا فرنسيس محقٌّ في استخدامه لهذا المصطلح، وإبادة لجماعات دينية أخرى تحصل.
صحيح أن منطقتنا تبدو الآن من حيث هي “عالمٌ مسلمٌ” وكأن أحد أكبر وجوه الصراع في حربها الأهلية الشاسعة يدور حول من هو المسلم الذي يكون ذبحُهُ حلالاً (أليس هذا هو الصراع المذهبي بالنتيجة؟)، غير أنه في الحروب ذات العناوين الدينية، كل النقاش “الفكري” يتركّز على الحلال والحرام في العلاقات بين جميع الجماعات الدينية حتى لو كان ذبح غير المسلمين حاليا يتم باعتباره أحد عناصر الخلاف الفقهي بين المسلمين!!!