سيلاحظ المراقب الزائر للعاصمة الفرنسية بوجهيها الأول الفرنسي والثاني كمرآة أوروبية، أن نفَس الحديث عن موضوعِ استخدام الأصوليين التقليدي للمساجد، بعض المساجد، في فرنسا وأوروبا الغربية قد اختلف اختلافاً كبيراً منذ أعلنت الحكومة التونسية بعد تفجير المنتجع السياحي في سوسة أنها ستغلق ثمانين مسجداً تعتبرها غير مرخّصة وبعد أن باشرت فعلا بإغلاق بعضها في مناطق مختلفة كما فصلتْ بعض أئمّتها من جهاز وزارة الأوقاف.
صحيح أن فكرتيْ إغلاق مساجد وإبعاد أئمة ليستا فكرتين جديدتين في فرنسا. فالحكومات الفرنسية طردت خارج الأراضي الفرنسية حوالى أربعين إمامَ مسجدٍ منذ تولّى الرئيس فرنسوا هولاند ولايته بينهم 12 إماماً منذ أوائل هذا العام. وهو ما فَعَلَتْهُ بنسبة أقل مرحلة رئاسة نيقولا ساركوزي السابقة. لكنْ لا شك أن القرار التونسي يعطي الانطباع في أوروبا بأنه منح قوةً بل شرعيةً لأسلوب المواجهة مع المتشدّدين الإسلاميّين، إغلاقاً وإبعاداً، ما كان للحكومات الأوروبية المعنية أن تجرؤ على تبنّيه بهذه العلنية لولا القرار التونسي القوي. فهذا القرار بمجرد صدوره عن حكومة بلد مسلمٍ وذي نظام حكم تمثيلي وديموقراطي يكسر محرّماً طالما لعبت عليه التيارات الدينية الأصولية وهو حرمة المسجد. فمجرّد إعلان غرفة ما في مكانٍ ما مسجدا يجعلها فوق القانون أو بأفضل الحالات محمية من القانون.
علينا أن نضيف هنا في هذا السياق أو في تشكيل هذا التيّار الكاسر لاستخدام التحريم في نشر التطرف والتكفير، وهذا سياق معاصر لا فرق فيه في الأساس بين أصوليات سنّية وشيعية، بل بين أصوليات مسيحية ويهودية وهندوسية في استخدام قدسية مراكز العبادة من كنائس وكنيست ومعابد… علينا أن نضيف الجهود الشجاعة التي تبذلها حاليا الحكومة المصرية في هذا المجال ناهيك عن التجربة العميقة والهادئة للحكومة المغربية في تمثيل ونشر ممارسة معتدلة وعقلانية وبنّاءة للدين، حتى أن الحكومة التونسية تقدّمت بطلبات لكي تشرف المؤسسات المغربية على تخريج أئمة مسلمين.
في فرنسا ومنذ أكثر من عقدين تحاول الطبقة السياسية تكريس مفهوم “إسلام فرنسي” ولا زال العمل على توسيع هذا المفهوم جارياً. فتخريج أئمة مسلمين بات حقيقة فرنسية راهنة بمعزل عن حدود نجاح هذه التجربة على المدى الأبعد.
الخروج من الارتباك الأوروبي في التعامل مع مسألة حساسة مثل إغلاق مسجد يرتبط مباشرةً بانتقال دول عربية ومسلمة إلى مرحلة أعلى من مواجهة المحرمات التقليدية التي أمعن الأصوليون الإسلاميون في توظيفها خصوصا بعد انتقال أجيالهم الجديدة إلى الإرهاب.
يجب الانتباه إلى أن النقاش في باريس وفرنسا وأوروبا لا يتعلّق على هذا الصعيد بالتيارات العنصرية التقليدية المعادية لمجرد الوجودَيْن العربي والمسلم في الغرب وخصوصاً فرنسا حيث أكبر جالية مسلمة في أوروبا، وإنما هو يتعلّق بسلوك حكومات وأحزاب معتدلة ومسؤولة تحاول مواجهة تزايد النفوذ السلفي الإرهابي في بلدانها، بمعزل طبعاً عن استمرار مفارقة السياسات الخارجية التي تنتهجها حكومات غربية وتضعها عمليا في الخارج لا في الداخل في نوع من التحالف الواقعي مع التكفيريين. لكن هذا ملف آخر. فالحكومات الأوروبية مع تزايد أعداد المسلمين لديها هي في قلب مخاض جديد في العقود الأخيرة غير مألوف سابقا بهذا الحجم وهو التكيف مع أوضاع أصبح فيها الإسلام أحد مكونات التركيبات السكانية الأوروبية الدائمة كما هو مثلا الدين المسلم في فرنسا باعتباره الدين الثاني في الحجم العددي بعد الكاثوليكية مع حجم مساجد يبلغ الألفين وربما أكثر على الأراضي الفرنسية (المساجد الخاضعة للتحقيق والمساءلة لا تصل إلى الماية). في كل بلد أوروبي الآن كما هو معروف فإن ملف الإسلام وأتباعه من مواطني الدولة من السويد إلى إسبانيا مروراً بألمانيا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا، ناهيك عن بريطانيا، هو موضوع متعدد الجوانب مع اندفاع الجزء الأمني منه إلى المقدمة منذ أحداث 11 أيلول 2001. ومسألة الاشتباه بمساجد يسيطر عليها ويستخدمها المتشددون مسألة مطروحة، من حيث السعي لإقفال هذا النوع من المساجد في العديد من الدول وبعضها قام فعلاً بعدد من الإقفالات كما في إسبانيا وإيطاليا.
قبل فترة تبنّى إمام “مسجد باريس الكبير”، وهو رجل محترم ومعتدل، اقتراحا بتحويل بعض الكنائس غير المستخدمة في فرنسا إلى مساجد لاستيعاب الأعداد المتزايدة من المصلّين. المفارقة أن الاقتراح صدر كما قيل عن وزارة الداخلية، مما أثار ردود فعل سلبية على مستوى الرأي العام الفرنسي. وليس صعبا اعتباره من الأساس أقل ما يُقال فيه أنه غير حكيم! وخصوصا في فرنسا في ظرف يشتد فيه الشعور الشعبي الفرنسي باتساع موجة انخراط الشباب المسلم في التيارات المتشدّدة (التقديرات عشرون ألفاً)، مع ان مدينة هامبورغ الالمانية شهدت حالة تحويل كنيسة سابقة الى مسجد ولكن المشروع لا يزال يتعرض لنقد عنيف في البيئة البروتستانتية المحلية.
فتح مسجد لضرورات اجتماعية عملية مشروعة. لكن إقفال مسجد يضخ التعصب والعنف عملية ضرورية. وعلينا في الغرب أو في العالم العربي أن ننتهي من هذا الابتزاز التقليدي الذي تمارسه التيارات الأصولية، ابتزاز المجتمعات والنخب.
إقفال مسجد يضخ الكراهية وفتح مدرسة محترمة للتعليم. لمَ لا! شرط أن تكون مدرسة للمعرفة لا دكانا للتجهيل. لكن هذا موضوع كبير جدا آخر ويتعلّق ببلداننا التعيسة لا بالغرب.
يلعب الأصوليون من كل الأديان بآلهتهم كأنها مِلكُهُم وغالبا تأتي الإساءات إلى فكرة العبادة نفسها، توحيديةً أو غير توحيديةٍ، أكثر ما تأتي منهم تحت اسم الدفاع عن المقدّس عبر المبالغة في هذا الدفاع. عام 2010 أصدرت المحكمة العليا في إحدى الولايات الهندية قرارا بقبول توكيل أحد الأشخاص عن الإله الهندوسي “راما” في خلاف على مكان عبادة قام فيه المتعصبون الهندوس بتدمير المكان الذي كانوا يعتقدون أنه مكان ولادة الإله راما ويريدون منع المسلمين من استخدامه. قضى قرار المحكمة العليا يومها بقبول التوكيل لأن الإله راما بقي طفلاً في هذا المكان وبالتالي ليست له الأهلية القانونية للدفاع عن حقه باعتباره لم يبلغ سن الرشد! هذا الحكم القضائي هو واقعة حقيقية لعلها إحدى الأمثلة الأكثر طرافة وجدية على تقاطع القانون الوضعي مع “القانون” الديني من حيث وضع الدينيّين دائما للديني باسم المقدّس في مواجهة القانون الوضعي مما أرغم، في الحالة الهندية التي نذكرها هنا، القضاةَ الهنود، وهم حتما قضاة كبار جدّيون حين يكونون أعضاء في المحكمة العليا، على إصدارِ هذا الحكم الطريف كمخرج وحيد بنظرهم لمعالجة مطلب تقديسي يتعلّق بإله هندوسي “طفل”!