عاد ملف موازنة ٢٠١٧ إلى الواجهة مع الحديث عن زيادات في الضرائب والرسوم المنصوص عليها في مشروع سلسلة الرتب والرواتب. المُشكلة أن هذه الضرائب ستؤدّي إلى لجم النشاط الاقتصادي الرسمي وستزيد من التهرّب الضريبي، لذا يتوجّب البحث عن إيرادات أخرى.
الدولة اللبنانية تعيش فوق قدراتها! هكذا يُمكن وصف وضع المالية العامّة في لبنان حيث بلغ إجمالي إيرادات الدولة ٩٥٧٦ مليون دولار أميركي في العام ٢٠١٥ و٥٣٣٧ مليون د.أ في الأشهر الستة الأولى من العام ٢٠١٦ مقارنة بـ ١٣٥٢٨ مليون د.أ نفقات في العام ٢٠١٥ و٧٢٧٣ مليون د.أ في النصف الأول من العام ٢٠١٦.
هذا الأمر خلق عجزا بقيمة ٣٩٥٢ مليون د.أ في العام ٢٠١٥ و١٩٣٦ في النصف الأول من ٢٠١٦. السبب في هذا الواقع الأليم يعود إلى سببين أساسيين: الأول ضعف الماكينة الإقتصادية الناتج عن عدم الثبات السياسي والأمني بالاضافة الى غياب الإصلاحات الإقتصادية والمالية، والثاني يتعلّق بالإنفاق الكبير الناتج عن الهدر والفساد.
التنّظير سهل، لكن المُهمّة صعبة! نعم مُهمّة إعادة التوازن في المالية العامّة صعب جدًا لأن الإعتماد على رفع الضرائب هو أسهل شيء خصوصًا أن العملية الحسابية المُتّبعة من قبل السلطات هي القاعدة الثلاثية والتي لا تأخذ بالإعتبار مبدأ العرض والطلب كما والمُتغيّرات الماكرو والمايكرو إقتصادية الأخرى.
بمعنى أخر، إذا كانت الضريبة على القيمة المُضافة (البالغة حاليًا ١٠٪) تُعطي إيرادات بقيمة ٣١٥٩ مليار ل.ل (٢٠١٥)، فإن رفعها إلى ١١٪ سيُعطي إيرادات بقيمة ٣١٩٠ مليار ل.ل. وطريقة الحساب هذه هي طريقة مُجتزأة لأنها لا تأخذ بالإعتبار أن رفع الضريبة على القيمة المُضافة سيرفع الأسعار وبالتالي سيُقلّل من الإستهلاك وكنتيجة فإن العائدات ستُراوح مكانها.
ما يدعم هذا الواقع، الضريبة على القيمة المُضافة على المُشتقات النفطية تجعل من نسبة ١٪ لها مفعول أكبر بحكم أن المُشتقات النفطية ستزيد أسعار السلع والخدمات بالإضافة إلى الزيادة المباشرة على أسعار السلع والخدمات أي أن زيادة الضريبة الفعلية ستكون أكثر من ١٪!
في كل الأحوال، تنصّ النظرية الإقتصادية على أنه خلال الفترات الصعبة إقتصاديًا لا يتوجّب على السياسات الحكومية فرض ضرائب لأن في ذلك ضرر على النشاط الاقتصادي الذي سيتأثر بمبدأ العرض والطلب (كما سبق الذكر) ولكن أيضًا بمفعول التضخّم الذي سيكون نتيجة إجراءات مالية وليس نتيجة النمو الاقتصادي.
والأصعب في الأمر أنه مع إقرار سلسلة الرتب والرواتب في مشروع الموازنة، سيكون مفعول التضخّم أكبر وأعظم وبالتالي فإن ما سيتمّ منحه للمواطن من حقوق سيتم إمتصاصه من خلال التضخم!
نعم إن حلّ مُشكلة المالية العامّة ليس بالأمر السهل، خصوصًا أن هذه المُشكلة هي مُشكلة مُزمنة وأن كل المشاكل الاجتماعية والسياسية تتمّ على حساب الخزينة العامّة. فالمعروف أن نواب الأمّة يميلون إلى إرضاء المواطن من خلال الشق الاجتماعي (مثل عمليات التوظيف الجماعي في الدولة) وهذا الأمر له مفعول قاتل على المالية العامّة.
ان تحسين إيرادات الدوّلة يمرّ قبل كل شيء عبر لجم الهدر والفساد وعبر إصلاحات إقتصادية ومالية عميقة. وكل بحث عن طريقة أخرى لتحسين الإيرادات ما هو إلا تهرّب من عملية جراحية لنا الحق في تنفيذها الأن أو ستُفرضّ علينا لاحقًا من قبل المُجتمع الدولي (حالة اليونان، وإيرلندا، ومصر…).
لا يمكن لأحد أن يدّعي انه يملك حلًا سحريا لتحسين الإيرادات، لكن يمكن اقتراح عدد من الإجراءات التي تُساعد لبنان على تحسين إيراداته لتخطّي مرحلة مالية دقيقة مع إستحقاقات مالية كبيرة في العام ٢٠١٧، ومرحلة سياسية غامضة مع إستحقاق نيابي قد يُعيد لبنان إلى ما كان عليه في الأعوام السابقة في حال فَشِلَ المجلس النيابي الحالي بإقرار قانون إنتخابي ولم يتمّ إجراء الانتخابات النيابية في موعدها الدستوري.
تحسين الإيرادات
قبل كلٍّ شيء، يجب الإقرار بأن الضرائب على النشاط الإقتصادي أمر مُضر بالإقتصاد، لذا فان الإجراءات المطلوب اعتمادها هي كالتالي:
أولًا – مُكافحة التهرّب الضريبي: إن التهرب الضريبي في الدول الغربية مثل الولايات المُتحدّة الأميركية، بريطانيا والدول الأوروبية وهي دولة فيها نظام تعقّب للعمليات الإقتصادية والمالية، هي بحدود ٢ إلى ٣٪ من الناتج المحلّي الإجمالي.
وفي لبنان حيث أنه لا يوجد أي نظام تعقّب للعمليات الإقتصادية والمالية، نُقدّر قيمة التهرب الضريبة بـ ٥ إلى ١٠٪ من الناتج المحلّي الإجمالي. وهذا الأمر يفرض على الحكومة رفع مشروع قانون الى مجلس النواب لرفع السرّية المصرفية عن كل الحسابات لمصلحة مُديرية تحصيل الضرائب في وزارة المال. هذا الإجراء وحده كفيل بتحسين الإيرادات بأقلّه ٤ إلى ٥ مليار دولار أميركي سنويا.
ثانيًا تفعيل جباية الرسوم والفواتير غير المدفوعة: تُشير التقديرات الى أن مُستحقات الدولة (المعروفة) لدى المواطنين من ضرائب (التهرّب الضريبي لا يدخل فيها) ورسوم وفواتير هي بحدود الـ ٤.٥ مليار دولار أميركي. لذا يتوجّب على الحكومة أخذ قرار صارم بتحصيل هذه المُستحقات دون أي غطاء للمُتهربين من دفع هذه المُستحقات.
ثالثًا – الإستفادة من مُمتلكات الدوّلة اللبنانية: وذلك عبر تأجيرها أو بيع ما هو غير إستراتيجي. وبحسب الدولية للمعلومات هناك في بيروت ما يزيد عن ٢٣٩ عقارا تابعة للدوّلة غير مُستغلّة في حين أن الدولة تستأجر العديد من المباني لوزاراتها ومؤسساتها بكلفة تفوق الـ ١٠٠ مليار ل.ل. سنويًا. لذا يتوجّب على الحكومة اللبنانية خلق لجنة عُليا لإدارة مُمتلكات الدوّلة اللبنانية.
رابعًا- فرض غرامات على المُمتلكات البحرية النهرية المُحتلّة: يبقى هذا الملف وصمة عار على الدولّة اللبنانية التي لا تستطيع فرض حماية على مُمتلكاتها من الغزو من قبل المواطنين. وبالتالي يتوجّب على الحكومة اللبنانية فرض غرامات (وليس رسوما لأن في الرسوم تشريع لعملية الاحتلال) على الممتلكات البحرية والنهرية بشكل كبير لأن في ذلك مدخول لا يقلّ عن ٣ مليار دولار أميركي سنويًا.
خامسًا- رفع مُتوسط تعرفة الكهرباء: من المعروف أن هذا الملف هو ملف فساد بإمتياز وبالتالي وبالتوازي مع رفع تدّريجي لتعرفة الكهرباء، يتوجبّ على الدوّلة اللبنانية خصخصّة إدارة الكهرباء ورفع مشروع قانون لتحرير هذا القطاع الذي سيزيد من إيرادات الدوّلة بشكل ملحوظ من خلال زيادة المداخيل وتخفيف الدعمّ.
سادسًا- إقرار قانون الشراكة بين القطاع العام والخاص: لأن في هذا القانون زيادة بشكل غير مُباشر لعائدات الدولة من الضريبة على أرباح الشركات وعلى عمل العُمّال خصوصًا إذا كانوا لبنانيين لأن العُمّال الأجانب لا يدفعون الضرائب وهذا أمر معروف.
في الختام لا يسعنا القول إلا أن أي إجراء من الإجراءات السابقة الذكر، ما هو إلا إجراء مؤقّت لأن الأساس يبقى في الإصلاحات الإقتصادية والمالية، خصوصًا الشق الإنفاقي.