IMLebanon

تهذيب لغة التخاطب في طليعة التحدّيات لهذا الموسم

 

لغة الخطاب السياسي والإعلاميّ مشكلة قائمة بذاتها في هذا البلد. إلتزام جادّة “السويّة الخطابية” يبدو أكثر فأكثر كشرط عسير. “النوبات” تعصف بلغة الخطاب، بكل ما تحمله معها من تشنّج وتصنّع ومبالغة واحتدام وتخوين وتخوين مضاد وكَيل الإتهامات في إتجاه وإعادة تجييرها هي نفسها في إتجاه معاكس تماماً بعد فترة وجيزة. لم يعد تصاعد الحدّة في لغة الخطاب انعكاساً لتصاعد التباينات في المواقع والمواقف. صارت الحدّة الخطابية، والأخطر منها الصعود والنزول الحادّين في هذه اللغة، مشكلة بحدّ ذاتها، تعكس هشاشة التباينات في المواقع والمواقف أكثر مما تعكس عمقاً في هذه التباينات.

 

يرتبط هذا مع تحوّل “نفسيّ” للطائفية في البلد. فهي تتحوّل أكثر فأكثر إلى ما بات يمكن الإصطلاح على تسميته “الطائفية الحسّاسة”. الحساسية هنا من دون سواسية، من دون استشعار لحساسية خارج دائرة الذات. بمعنى انك تجد الطرف نفسه الذي لا يكترث كثيراً بمشاعر سواه وعواطفهم، يفترض في نفس الوقت لزوم أن يتعامل معه الآخرون على أنّه مرهف إحساس لا يُخدَش ولا يُستفز. ظهر هذا بشكل جليّ في احتكاك الأسبوع الماضي، لكنه لا ينحصر بهذه “الجولة”.

 

يرتبط هذا مع افتقاد الصبر بين المجموعات المختلفة على التفاوض في ما بينها. كلّ مجموعة تعتبر أنّ ما تعرّفه هي هو حق مكتسب لها، ما على الآخرين سوى تأمينه لها في أسرع وقت والسلام. ترتد هذه الذهنية بشكل سيئ على عمل المؤسسات، مثلما ترتد بشكل سيئ على أي إمكانية تخاطب تفاوضي بين الجماعات، في موازاة المؤسسات. يجري بالتالي، بهذه الذهنية، ضرب كل من أنماط التواصل التقليدية بين المجموعات الأهلية المختلفة، والمعايير المفترض أن تُتّبع لبلوغ الحد الأدنى من العمل الطبيعي لمؤسسات الدولة.

 

فبدلاً من الأخذ والرفض التفاوضيَّين بين مجموعتين حول أمر معيّن، وبدلاً من معايير يُحتكم إليها لتأطير هذا التفاوض، أو لحسمه إذا طال الأمر، تتحوّل “النوبات” الخطابية الخشنة إلى بديل عن كل أخذ وردّ، الأمر الذي يطرح قبل كل شيء سؤال المسؤولية. فمسؤولية أي قوة سياسية هي في عدم اتباعها في الشأن العام نفس أجواء الخلاف على أفضل المرور بين سيارتين على الطريق. والحال أنّ “نزاعات” أفضلية المرور هي التي تظهر أكثر فأكثر، وتشغل من رصيد ووقت الناس وأعصابهم، وتنقلهم في لحظات قليلة من مشهد مفرط في التشاؤمية، بشكل كاريكاتوري، إلى مشهد مفرط في المجاملات المتفائلة، بشكل يزيد كاريكاتورية.

 

لم يعد البلد في مرحلة الإستقطابات الحادة، كما كانت حاله من عشر سنوات مثلاً. ومع ذلك، نوبات الخطاب لا تعكس هذا، بل تشير إلى أنّه، حتى عندما تكون الإستقطابات غامضة، قيد البلورة، متحسبة، مؤجلة، يمكن للإحتكاك أن يكون مؤذياً، وللتشنج أن يوسّع دائرته.

 

بالتوازي، إذا كان الإسفاف والكلام الفظ أمراً ضارّاً، سواء جاء صاخباً أو مضجراً، فإنّ “التهذيب القسري” أيضاً لا ينفع. تهذيب الخطاب هو تحدٍّ قائم بذاته، لا يمكن التقليل منه لصالح أولويات أخرى. هو أيضاً، يمكن عدّه أولوية، لا يتأمّن بالتوازن، والسوية، والإلتزام بالسواسية، ووضع طرف نفسه في موقع الطرف الآخر، في كل مرة يحدث تشنّج أو تحصل أزمة.

 

ليس هذا ببعد هامشي في الموسم الإنتخابي. حصول الإنتخابات بالشكل السليم مرتبط بإعادة الخطاب السياسي فيه إلى جادة المصلحة. إلى حيث يمكن أن يقول فلان أن مصلحته هي هذا الشيء وذاك، ويقول فلان مصلحة أخرى، من دون أن يكون أحدهما مضطراً للإسفاف بالآخر. بالطبع، كل انتخابات في العالم تشهد الحماوة فيها على تطور إيجابي فيها، وهذه الحماوة تتصل أيضاً بتراشق اتهامات، على هامش التزاحم بين المرشحين وطروحاتهم. لكن ما حصل الأسبوع الماضي صار يفترض معالجته ليس فقط آنياً وظرفياً، لكن بتقاطع شامل لإعادة تهذيب الخطاب، وإعادة تظهير التناقضات بين المواقع المختلفة كتناقضات جائزة ويمكن تسويتها، من خلال كل من لعبة المؤسسات وقنوات التفاوض الإجتماعي الموازية.. وإلا سنذهب أكثر فأكثر الى حيث يجتمع تراجع التهذيب هنا وهناك، مع تصاعد حساسية هذا من ذاك لأنه خدش حياءه أو رمقه بنظرة جافة!