Site icon IMLebanon

في منهج مستمر

 

ولا مرّة كان تشكيل الحكومة اللبنانية شأناً محلياً صرفاً.. أقلّه في العقود الأربعة الماضية. بل ولا مرّة في معظم تلك العقود، وخصوصاً في زمن الوصاية الأسدية الموؤدة كان للداخل الوطني الصوت الأرجح في التأليف والتعريف: في عدد الوزراء وهوياتهم وأهوائهم، وفي مهام الحكومة وعنوانها ووظيفتها وبيانها الوزاري.

 

تحت ذلك السقف، تمتّع لبنانيون كُثر بترف الادّعاء.. وأعلاهم صوتاً وشأناً كان عادة صاحب الحظوة المميزة عند الضابط السوري! وولي أمره في دمشق! وفي هذا المسار طفح العيب. وتأبط هؤلاء إهانة الكرامة السيادية الوطنية باعتبارها قدراً مطلوباً! بعد أن أمعنوا في جملتهم في كسر دولتهم وتنمية مشاريعهم الخاصة على حسابها، وذهبوا في ذلك إلى توهّم انتشاء ذاتي الإنتاج مع أنه موصول بحبل السرّة مع دمشق سابقاً وطهران لاحقاً!

 

في المرحلة التي تلت جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ضَمُرَ الخارج السوري (والإيراني) أمام انتعاش يقظة وطنية لبنانية معقولة ومؤثرة.. لكن حتى في تلك المرحلة، بقي أمر السلطة التنفيذية شأناً يخصّ الداخل مثلما يخصّ الخارج! ويتأثّر بالارتباطات والتوجّهات والإرادات البعيدة بقدر ما يفعل ذلك ذاتياً ووطنياً.. لكن العنوان العام هذا لا يطمس الاختلاف الجوهري الحاسم بين نهجَين: واحد بنى على حساب لبنان واللبنانيين وأصحابه سوريون وإيرانيون، وآخر اشتغل لحساب لبنان واللبنانيين، وأصحابه سعوديون وآخرون!

 

لا النظام الأسدي في زمانه، ولا وريثه الإيراني عبر “حزب الله” اشتغلا في لبنان تحت سقف المصلحة اللبنانية العليا والصافية بل العكس تماماً.. عملا، ولا يزال الأخير يعمل، انطلاقاً من قياسات شديدة الذاتية والأنانية. وفي كل خطوة ومجال ومدار. من الشأن السلطوي الكبير إلى الشأن التوظيفي الصغير! وكل خطوة بحسابها: تُمرّر ويُسمح بها إذا خدمت اللحظة السياسية العابرة، والاستراتيجية الوصائية التسلّطية الدائمة. وتُعطَّل وتُدمَّر إذا عنت العكس! وإذا كانت تحمل شبهة تأثير سلبي على النفوذ الممانع الهوية، أو شبهة تأثير إيجابي على عملية استنهاض الدور والمكانة الوطنيين!

 

سَرَتْ طويلاً أيام الوصاية الأسدية خبرية المقارنة بين خيارَي هونغ كونغ وهانوي! وحملت هذه في طيّاتها وظواهرها إرادة منع ترابط الخيوط بين التنمية وإعادة الإعمار ونمو حالة سيادية وطنية متدرّجة صعوداً، ما أدى في المحصّلة إلى تهتّك المعطيين معاً بما سمح ولا يزال يسمح بدوام المنصّة التي يقف عليها أصحاب النفوذ والارتباط الخارجيين تحت علم “الممانعة” و”المقاومة”.. وحتى بعد أن تبيّن أن جلّ طموح هانوي هو أن تصير مثل هونغ كونغ! وجلّ طموح طهران هو قبول عضويتها في مجمّع “وول ستريت”!

 

الطموح الإيراني المتبدّد تحت وطأة الصدّ الإقليمي والدولي لا يزال مفعّلاً في لبنان.. ومن عناوينه التعطيل الابتزازي الذي يتمظهر راهناً بكربجة عملية تشكيل الحكومة بجملة سلاسل مطلبية ثقيلة وبعضها أو جلّها، مستحيل. وباعتماد طرق وأساليب تُظهر عكس ما تُبطن، وتسعى تحت عنوان “وحدة وطنية” إلى محاولة تثبيت غلبة سياسية تعوّض على طهران شيئاً من خسائرها، وتضع في يدها ورقة ابتزازية موشّاة بادّعاءات “السيطرة” على البرلمان على قولة قاسم سليماني، ومحاولة مدّ تلك السيطرة على الحكومة العتيدة تحت ظلال الدعوة إلى نسبية لا يُقصد منها أولاً وأساساً، سوى كسر نتيجة الانتخابات التي آلت إلى تكريس الريادة الطليعية للرئيس سعد الحريري.

 

وبهذا المعنى بل وبكل المعاني، وبالمنطق والعقل والحس السليم والحسابات الضميرية، لا يمكن تحميل الرئيس الحريري، ولا السعودية ولا المدار العربي (والغربي) العام أي مسؤولية في كربجة عملية تشكيل الحكومة ولا وضع وافتعال العراقيل أمامها.. بل يطرح الأمر على الجانب الآخر الذي لا يزال يعتبر لبنان ساحة له، وصناديق بريد، وبدلاً عن ضائع وليس وطناً مُستحقاً لأبنائه.