لم تتوقّف ماكينة الممانعة الإيرانية، لا في ديارنا ولا في جوارنا، عند الإعلان الإسرائيلي الصادم عن شنّ نحو مئة غارة جويّة على مدى السنوات الخمس الماضيات، ضد أهداف تابعة لإيران و«حزب الله» في سوريا.. بل لم يجد صائح أو نائح في تلك الآلة التعبويّة الاستثنائية، أي سبب أو داعٍ، لمقاربة ذلك الإعلان بأي طريقة! أو الإضاءة عليه! أو حتى الإشارة الى أخذ العلم به!
وذلك مفهوم وطبيعي. ولا يفاجئ في واقع الحال أحداً.. الإعلان الإسرائيلي يكسر نغمة «الانتصارات» المتراكمة شكلاً! ويبهدل أبطالها ومراميهم مضموناً! ويدلّ على أنّ الادعاءات المنفوخة بالغلَبة والاقتدار والتمكن، لا يمكن أن تسري خارج مدوّنة السياسات الإيرانية «الكبرى» في سوريا والمنطقة عموماً. وهذه كفّت منذ زمن، عن الدخول في «تجارب» صعبة ومكلفة ميدانياً مع الإسرائيليين أولاً ثم مع الأميركيين! واستبدلت ذلك، باستسهال تركيب المتناقضات أياً يكن صلفها، في سبيل الحفاظ على السلطة والنفوذ والاستثمار الغالي، في سوريا ورئيسها السابق.. وفي غيرها وحيث أمكن!
تلك السياسات تواضعت في الإجمال، وتنمّرت في التفاصيل: غابت شعارات «الموت لأميركا ولإسرائيل» وما تناسل عنها! وغابت معها ردحيات «الشيطان الأكبر» وشقيقه «الأصغر»! وتلاشت قصّة البديل الثالث عن ثنائية الشرق والغرب! وانمحى ذكر «الحكومة الإسلامية العالمية»! وتوقّف العزف على وتر «الغدّة السرطانية» المسمّاة إسرائيل! والضرورة الحتمية لإزالتها عن وجه الأرض! وضَمُرت (بالمناسبة!) التركيبات اللغوية التي صاحبت اندلاع الثورة الإيرانية وبقيت أساس عدّتها البيانية والتعبويّة على مدى سنوات وسنوات، وهي المتصلة «بالمستضعفين في الأرض» وجهادهم المقدّس ضد «المستكبرين» والطغاة.. ولم تعد «قضية فلسطين وشعبها المظلوم» درّة أيقونات التعبئة والتحشيد والتبليغ! وصار «يوم القدس» واستخداماته، مجرّد احتفال طقسي متواضع في الجمعة الأخير من كل رمضان!
استدعت موجبات ومتطلبات مشروع النفوذ الإيراني، تلك التغييرات المتدرّجة نزولاً.. واستدعت في مقابلها أو في موازاتها «قضايا» أخرى، لا بدّ منها (صعوداً). ولا يُفترض أن تقلّ «قداسة» عنها. وفي ذلك كان التنمّر هنا ثمناً مقبوضاً للتواضع هناك.. وكان «الإرهاب» شمّاعة لمّاعة عُلّقت عليها أردية الضجيج المذهبي السافر! وعباءات السعي القومي الأكثر سفوراً! وشراشف النفوذ السياسي المحوري والقطبي! وذلك استدعى ويستدعي إجراءات على الأرض ومثلها في فضاء البيان والتبليغ والشعار. وهذه عنت وتعني تحويل البوصلة باتجاه آخر: صارت «الوهابية» في العرف الإيراني، أخطر من «الصهيونية»! وصارت السعودية محور الاستهداف وليست إسرائيل! وصارت دول الخليج العربي موضع السعي و«الجهاد» وليس «الاستكبار العالمي»! وصارت الحماية المدعاة للمراقد المقدّسة التاريخية (والمستحدثة!) موضع التركيز وليس «المسجد الأقصى»! وصار النبش في التاريخ واستحضار جزئياته وكليّاته الفتنويّة، الأساس وليس الفرع! وصارت روسيا حليفاً موثوقاً! والولايات المتحدة هدفاً للاستجداء التحالفي!
في ميدانيات هذه المدوّنة، لا بأس من أمور كثيرة.. كأن تخوض إيران وجماعاتها في سوريا معاركها ضد السوريين تحت مظلة السلاح الجوي والأرضي والسياسي والديبلوماسي الروسي! وأن تكون هذه المظلّة واسعة الى حد ضبّ مصالح إسرائيل ومتطلبات أمنها التكتي والاستراتيجي تحت فيئها! وأن تُستحضر عادات النعامة إزاء غارات جوّية مدمّرة! وأن يُستهدف في دمشق وتخومها أبرز الرموز المقاتلة في «حزب الله» بسهولة غريبة عزّ نظيرها في لبنان على مدى سنوات وسنوات برغم كل ما فيه من «انفتاح» أمني دولي واسع وأكيد وفاعل!
مئة غارة إسرائيلية كأنّها «نيران صديقة»! ولا تستحق خبراً وتحليلاً ومتابعة وتدقيقاً وخرائط وشروحات وتوعّدات وخطابات وتهديدات وعنتريات وانتصارات وإهداءات.. «أبو مالك التلّي» في جرود عرسال أهم بالتأكيد! وتعميم الصيحات الديكية عن «انتصار» بشار الأسد على الشعب السوري، أَولى وأَبدى!