IMLebanon

في رسالة مرموقة!

 

حديث الخبراء وأهل الاختصاص ليس وجهة نظر ولا رأياً طيّاراً، إنما شيء آخر مبني على المعلومة الدقيقة والحساب الناشف والعاري والأرقام التي لا تعدّلها كثرة الادّعاء والطنين واللغو والتشبيح.. ويمكن برغم ذلك ملاحظة غدرٍ بالعلم مقصود ومطلوب من قِبَل بعض هؤلاء إذا اقتضى التوجيه السياسي، أو الحزبي النظامي ذلك! وإذا فرضت ضرورات “البروبغاندا” المزيد من التحشيد والإضاءة على “الإنجازات” والفتوحات والنجميّات العاليات! وإذا وَجَد صاحب السلطة خطراً من تثبيت “علمي” لما يراه الناس كل يوم وفي كل ناحية وزاوية من انهيارات وانكسارات في القدرة الشرائية أو في عري الرفوف من البضائع أو في تهالك البنى الخدماتية البديهية أو في الاندثار الثابت للطبقة الوسطى.. الخ!

 

لكن ذلك الاستطراد الغادر لم يجد مطرحاً له في إيران اليوم خصوصاً بعد أن أقرّ كبار القوم بما هو قائم وحاصل، وبعد أن نشّفت ضروع الأدلجة ولم تعد تكفي لتعبئة الفراغ باللغو المناسب! أو لاستدرار المزيد من شدّ الأحزمة على البطون الرخوة والضامرة.

 

رسالة الخمسين خبيراً اقتصادياً إيرانياً التي نُشرت في طهران بالأمس قارعة ناقوس الخطر ومنذرة بانهيار الاقتصاد “لأن الظروف أصعب وأخطر مما يتمّ تصويره. ولأن انهيار العملة بدأ يأكل الأخضر واليابس ويدمّر كل شيء”.. أضافت على ما هو قائم وواضح. وأكدت من الداخل ما هو معروف في الخارج. وزادت ثقلاً مرموقاً على وجهة نظر داخلية متصاعدة تحمّل السياسات المتّبعة من قبل أهل النظام مسؤولية إفقار دولة غنية! وتأزيم اقتصادها وماليّتها برغم وفرة خيراتها ومواردها!

 

وأهمية الرسالة تكمن في أنها اختصاصية وليست سياسية. وداخلية وليست خارجية ولا يمكن إتّهام مَنْ وضعها، بالعمالة أو الخيانة أو التآمر على الجمهورية وثورتها مثلما جرى ويجري إزاء الداعين الى “محاورة” الأميركيين.. أو الناشطين باتجاه تعديل مسار السياسات المتّبعة (وفي الداخل مثل الخارج!) طالما أن الكارثة هي الحصيلة الوحيدة لذلك الأداء المزدوج! وطالما أنّ استراتيجيّة بناء حيثيّة عظمى على أساسات متواضعة ولا تنقصها الركاكة، انكشفت وما عاد بالإمكان ستر عُريها! ولا تلطيف خوائها! ولا تعطير سيرتها في التاريخ بما يجعل من الفتنة فتحاً ربّانيّاً! أو إشعال النار في المحيط مكرمة أخلاقية أكيدة! أو إنزال النكبات بأقوام وشعوب توحّد الله وتنطق بالشهادتَين، إنجازات انتصارية واجبة الوجوب لإحياء الماضي التليد والآفل!

 

الانكسار الحتمي في المثال الإيراني سبقته شواهد وأمثلة كثيرة أبرزها (على جاري القول) تجربة “الاتحاد السوفياتي” التي كانت “الأنصع” والأكثر دلالة على كيفية تحطيم النظام السياسي القاصر والفاشل للكيانات الغنية بالمواد الأولية والموارد الطبيعية والعنصر البشري المبدع.. لكن الأمثلة “القريبة” والمشابهة أكثر، تمرّ على فنزويلا – تشافيز مثلما تمرّ على ليبيا – القذافي والعراق – صدّام حسين، وتصل في زاوية ما، الى كوريا الشمالية عند مقارنتها بشقيقتها الجنوبية برغم تواضع الثروات الطبيعية في شبه الجزيرة عموماً!

 

الفارق بين تلك الأمثلة هو أن صنّاع التجربة الإيرانية ينقصهم التواضع، ويغلب عليهم طبع المكابرة والإمعان في الغيبيات والوعود الخلاصية، والاستئناس بالإقامة في بروجهم اليقينية المشبّعة بالتاريخ والهويّة القومية والدينية بما يجعل من اقترابهم مرّة واحدة من الأرض وحقائق الاقتصاد والمال خبراً كبيراً.. ومن رسالة ممهورة بتواقيع خمسين خبيراً قصّة مرموقة ومحترمة ويلحظها كل الناس إلاّ سكان العنوان المرسلة إليه!

 

.. سقطت الاستراتيجية برمّتها فوق رؤوس أصحابها لكن هؤلاء لا يزالون يردحون “بقوّتهم” و”عظَمَتهم” و”تمايزهم”.. ويجدون الوقت الكافي في ظلّ ذلك الخراب للاستمرار في إعطاء “الدروس” لجيرانهم في كيفية بناء الدول! وممارسة الحكم! واحترام الرأي الآخر!!