لا تفاجئ التفاصيل التي تُعرض أمام المحكمة الدولية عن الممارسات الوصائية الأسدية في أيامها السود والكالحة. فهي في الجزء الأكبر منها، معروفة بشكل أو بآخر، وفيها من مقوّمات الإدانة ما يكفي ويزيد إلا لمن لا يزال يفترض أن سلطة بشار الأسد تتعرض لمؤامرة كونية، وأن المحكمة جزء منها.. وأن الطفل الشهيد ابن درعا حمزة الخطيب كان واحداً من أبرز وجوهها، وأن الشعب السوري في مجمله ينفذها مباشرة!
لكن تلك التفاصيل تحديداً تعطي شهادة أبعد مدى من قضية الغدر بالرئيس الشهيد رفيق الحريري ووقائعه ومقدماته وأسبابه. بحيث أنها تلخّص في إطار زمني محدّد، وفي كادر قضائي وظيفي، معظم خلفيات ثقافة هتك القانون وانتهاك الدستور والتطاول على الأعراف المعهودة في لبنان، كما ضمور الدولة السلطة باعتبارها الكادر الحديث المنظّم للاجتماع البشري والسياسي والديني مثلما هو الحال في أي كيان طبيعي معترف به في هذا العالم.
تفاصيل جريمة 14 شباط 2005 بهذا المعنى هي في العموم تفاصيل جريمة تفويض السلطة الأسدية تنظيم انتقال لبنان من حالة الحرب الأهلية الى حالة السلم الوطني.. مع ما يعنيه ذلك من إعادة إحياء الدور المركزي للدولة، الذي حطمته الحرب ودفعت به الى مصاف الركاكة والهريان. بحيث أن النتيجة لم تخالف منطق الأمور، ولم تنتج في تفرّعاتها شيئاً غريباً عن منابتها: سلطة انقلابية فتكت بأعراف بلدها وببنيانه الاجتماعي والسياسي، ورسخت وجودها بالحديد والنار والعنف المصفّى من دون أن تلحظ أي احترام أو تقدير لأي قانون أو دستور أو عُرف، ما كان بإمكانها أن تقدّم للبنانيين بضاعة مختلفة! أو أداء متميزاً عن الذي تعتمده في بلدها! وما كان بإمكانها أن تصدّق في العمق الرواية الهشّة والتسطيحية التي سرت في نواحينا تلك الأيام عن «الرجل الواحد الذي يحكم نظامين مختلفين».
في الواقع، الذي تتكشف تفاصيل أكثر وأكثر عنه في المحكمة الدولية، فإن نظام الأسد بمرحلتيه، مع الأب والابن، اشتغل بدأب وبحرفية، كي يتماهى النظام اللبناني مع «شقيقه» في «القطر» المجاور! وأمكنه بمعونة ضحالات محلية، من كل المراتب، أن يفرّغ الدستور من كل معانيه ويحيله الى آنية ديكورية، جميلة في الشكل فارغة في المضمون. أي أنه مثلما وضع في سوريا واجهات مختلفة مذهبياً لسلطته الفئوية واختصر بإرادة رئاسية لا تُجادَل، كل السلطات على تنوعها وتعددها، ولم يترك لها إلا الإطار الوظيفي الشكلي والتقني المحض، حاول أن يفعل ذلك في لبنان، وكاد يظفر بجناه!
في تفاصيل محاولته تلك، يكمن الجذر الفعلي لمعظم المناخ التفلّتي الراهن عندنا. ولمعظم ثقافة الفتك بالدولة وهتك سطوتها وسلطتها… قبل الحرب والوصاية، كانت البذرة موجودة، لكنها محصورة بحالات فردية ومطمورة تحت ثقل القيم الدستورية وأحكام القانون وأدواته ومؤسساته. بعد الحرب، ومع الوصاية وبفضلها انقلب القياس: ضمرت الدولة بكل معانيها، ولم تشفَ من ضمورها بعد!