هذا النص استعادي، أعرضه اليوم مجدداً بعد أن كنت كتبته قبل خمس سنوات، لا لشيء إلاّ لاكتمال قناعة ذاتية تقول بأن الغلط كان متسيّداً في لبنان، ولا يزال متسيّداً. وأن السياق السلبي العام لا يزال ذاته وإن تغيّرت المعطيات والهويات والسياسات..
.. بل تراه ازداد سلبية وطاف!
«يقول الثقاة والضالعون في العلم والحكم والتاريخ وأحوال الأمم والشعوب، أهل الحل والربط، والشد والرخو، والجذب والنبذ، والإمساك والإفلات، أهل الزمان الغابر، أكابر اللغة والنواميس، أساطين الحكمة وروّاد البيان، ملوك الصفنة وسبر الاغوار، أمراء الشرود في أحوال النِحل والملل والقبائل والعائلات والبطون والأفخاذ، يقول هؤلاء: إن تهافت الدول واضمحلال كيانها وتردّي حالها وصولاً الى الاندثار، إنما هو مسار تنازلي (أو تصاعدي) يبدأ بتهافت الأخلاق، ويصل الى محطته الأخيرة، حيث اليباب واليباس، وحيث لا ورد ولا خضرة ولا ماء ولا كلأ، وحيث زوال العمران والتبادل المعرفي والخبراتي والبنياني والثقافي والعاداتي، وزوال التواصل مع أمم أخرى وشعوب وقبائل لها بنيانها العام وفي رأسه وأوله الأخلاق، عامة كانت أم خاصة!
ويقول هؤلاء بعد ذلك، إن تمزيق الكيانات والدول والإمبراطوريات، ونزولها عن منصة أمجادها وسؤددها ورفعتها وعلو كعبها، وركونها على هامش الزمان والمكان، والجغرافيا والتاريخ، والحياة وشروطها، إنما هو مسار يبدأ عندما تنقلب آيات وجودها لتصبح شذرات لا تُرى فالتة على درب الاضمحلال، وعندما ينقلب الميزان ويختلّ منطق الأفاضل. فيصير، على جاري الكلام العادي في يومياتنا، الفاجر يأكل مال التاجر، والمجرم يحاكم القاضي، والجلاد يلبس ثوب الضحية، والجبان يعيّر الشجاع، والضحل يحاضر في الأسوياء، والكذاب يحاضر في الصدق، والدجّال يقيم في مقام الأولياء والأتقياء، والسارق في محل المسروق، والمبتز في محل الساند كتفه على قوس العدل ومنصّة الحق، والمشعوذ بديلاً من الحكيم، والمرتكب بديلاً من المضحّي، والمفتري في مقام المجنى عليه، والمذنب في مقام البريء..
ويقول هؤلاء السادة الأكارم، أهل الفضائل وأسرار الخلق، الضالعون في الأصول والفصول، والشرائع والنظم والقانون، الآخذون عن بعضهم ومن بعضهم شروط الريادة وأسباب البقاء، ومفاصل الدول وكيفية بناء قوتها وصلابتها ورصرصة بنيانها وتدعيم منعتها.. يقولون إن الاندثار مسار يبدأ عندما يتعطل العقل وتفيض الغريزة، ويصير الخبط عشوائياً. لا دراسة ولا دراية ولا تمعّن ولا رويّة، ولا إبحار في أغوار لا بد من سبرها مهما خضّت الريح سطحها الظاهر والبيّن، ومهما طرطشت فلتات الرعاع من أدران على حيطان القانون والانتظام العام والذوق الجمعي، ومهما بُطحت بالأرض ومُسحت بالتراب مكارم الأخلاق ورفعة الأداء.
ويقول هؤلاء، إن سر الاندثار يكمن في تراكم الغلط وتمكين الأقزام وأشباه الأقزام، الأغبياء الأدعياء، منتحلي مكرمة الذكاء، الفاسقين الفاجرين منتحلي صفات الريادة والعفّة والبطولة، ممتهني التزوير والعربشة على المظالم.. عندما يُمكّن هؤلاء من ناصية الحكم على البشر والسلطات. فيلبسون أثواباً تستر ما خفي وبان من عوراتهم، فيمزقون أثواب المدينة والدولة، ويخلّعون أسيجتها ويطيحون مؤسساتها، ويذلّون أكابرها وكرامها وأشرافها، ويأخذون من كل ركن مؤسساتي مكاناً لإقامة الغيّ وإنعاش العسف وإشاعة الابتذال والسفاهة..
تندثر دول اندثرت الأخلاق فيها..
لكن الحتمي في هذه الدنيا الدوّارة لا يُمحى ولا يندثر: جولة الظلم ساعة وجولة الحق حتى قيام الساعة!».