لا يملك كثيرون سوى الافتراض أنّ جزءاً أساسياً من سياسة إيران الخارجية لا يزال يُعبِّر عن تردّدات أزمة داخلية، تعسّ بهدوء تحت وطأة التوازن الذي يفرضه «المرشد» بين طرفَي تلك الأزمة.
إلاّ إذا أُعيد الاعتبار لنظرية لا تخلو من غرابة في عالم الدول الحديثة. وهي أنّ هناك أداءَين «رسميين» متناقضين لكنهما يخرجان من تحت عباءة سلطوية واحدة!
أداء يأخذ إيران من مرحلة الهيجان إلى نقيضها. ومن مرحلة «الثورة» إلى «الدولة». ثم من طروحات «القوّة الثالثة» الخارجة من سقوط أحد محورَي الحرب الباردة وافتراض القدرة (من المرشد الإيراني!) لتقديم بديل قطبي لكل المتطلّعين والمتنطّحين لمواجهة «الأحادية» الأميركية.. برغم بؤس الطرح وانعدام الآليات والقدرات والعلوم والتكنولوجيا والتصنيع العسكري والريادة الفنية بكل أشكالها.. إلى آخر العدّ والاحتمالات والامكانيات!
.. وأداء يذهب إلى النقيض من ذلك. إلى إبقاء «الثورة» في مكانها المستحيل، ومحاولة البناء على فشلها الأكيد في ترسيخ قِيَمها عند جيل إيراني حديث لا تهمّه في هذه الدنيا إلاّ مظاهرها وحداثتها، قبل دعوته إلى الخلف، وما سلف، وأمجاد امبراطوريات أفُلَت.
وذلك كسر وغصب لمسار الطبيعة وأحكام الزمن. والمفارقة تكمن في أن لا تجد عصبة «الثورة» المُستدامة، ولا مؤسّساتها، التي بُنيت على مدى العقود الثلاثة الماضية، ولا التمسُّك العنيد ببقائها تبعاً لبنية المصالح الكبرى التي نشأت عنها.. لا تجد هذه العصبة من أدوات ورؤى ومُنتجات وطروحات ما يكفي لتسويق استمرارها ودوام سيطرتها سوى عروض الاستنفار والتوتير والمعس والدعس والقطع والفصل ومحاولة ترسيخ خطاب النعرة القومية المتقدّم، في كل حال، على النعرة المذهبية وحساسياتها.
وتلك في العموم، معادلة اصطلح على توصيفها في الداخل الإيراني وخارجه، بأنّها نزاع قائم وحار بين إصلاحيين ومحافظين. وهو نزاع ميّال إلى الانحدار تارة باتجاه الأولين وتارة باتجاه الآخرين، سوى أنّ الطرفين يقولان قولاً مألوفاً (وصحيحاً وهذا مبعث غرابته) وهو أنّهما لا ينطقان إلاّ بما يقرّه «المرشد» الأعلى!
كان يمكن أخذ الموضوع، كما تُؤخذ مثيلاته في معظم الدول. لجهة وجود وجهات نظر متعدّدة في السياسة ومشتقاتها وفي الاقتصاد ومدارسه وأبوابه وفي الشؤون الاجتماعية وموجبات التنمية، لولا أنّ ذلك لا ينطبق على إيران، لا من قريب ولا من بعيد. ولولا أنّ «ممارسة السلطة» لا تعني هذا التوصيف: حيث إنّ السلطة (عادة) تكون واحدةّ لا سلطتين! والسياسة الرسمية تكون واحدة لا سياستين متناقضتين! والشرعية المغلّفة لتلك السلطة مصدرها واحد لا اثنان!
حالة إيران بهذا المعنى، استثنائية بامتياز. ولا توصيف يليق بها أقل من «الشيزوفرانيا» التي تصيب الناس عادة وتجعل الشخص الواحد ذا طبيعتين! ووجهين! ولسانين وأداءين.. ومتعارضين بعنف!
ومن الآن حتى تبلور حالة معاكسة و»طبيعية»، ستبقى إيران تقدّم في الخارج أداء متناقضاً و»على القطعة» وحسب الموضوع من دون أي حرج أو ارتباك.. لأنّ ذلك على ما يبدو، هو البديل الوحيد الممكن والمتوفّر، عن ذهاب نزاع الإصلاحيين والمحافظين في الداخل إلى أماكن بعيدة عن عباءة «المرشد»! وقريبة من ذلك الذي يحمله الجنرال قاسم سليماني إلى شعوب العراق واليمن وسوريا ولبنان والبحرين!!