انتقل موضوع النفايات من أن يكون مشكلة بحاجة الى إدارة بيئية ليصبح بخانة «إدارة الكوارث»، فكل الحلول المطروحة بالأمس ومن الآن وصاعدا، باتت تقيّم تحت هذا العنوان، اذ لم يعد هناك من إمكانية للبحث عن الأثر البيئي لأي خيار، فكل الخيارات المطروحة والتي ستطرح، لإدارة الأزمة التي تحولت الى كارثة، هي سيئة بالتأكيد على المدى القريب والمتوسط والبعيد.
وأصبحت المفاضلة الآن في التقييم بين السيئ والأسوأ وبين الخطير والأخطر. فإذا كانت الخيارات بين ان تدفن النفايات خلف سنسول على الشاطئ بعد فرزها او ان تدفن كما هي، أو ضمن بالات (لا فرق) فوق مصادر المياه الجوفية في الجبال، فالخيار الأول اقل خطورة على المدى البعيد: البحر مع الوقت يمكن ان يعيد تنظيف نفسه اذا انقطعت عنه مصادر التلوث أو قلّت مع عمليات الفرز.
أما اذا تم تلويث التربة والمياه الجوفية، فإن أحدا لن يستطيع ان يعالج قضية تلوث التربة والمياه الجوفية التي تعتبر مصدرا غذائيا وحياتيا حساسا ومهما جدا لحياة الشعوب والأجيال الآتية. ولا أحد يستطيع ان يتكهن ما هو الوقت الذي تحتاجه عمليات المعالجة الذاتية ولا كيفية تنظيف التربة والأحواض الجوفية بعد ان يضربها التلوث من جراء تسرب عصارة النفايات المطمورة.
كانت الشكوى في لبنان، دوماً، بتلوث المياه الجرثومي الناجم عن اختلاط المياه العذبة بمياه الصرف، وقد ندر ان كشفت الفحوصات على العينات من المياه تلوثا كيميائيا.
أما اذا تم دفن النفايات فوق مصادر المياه الجوفية، فإن أحدا لن يستطيع التكهن أيضا حجم التلوث الكيميائي الذي سيصيب المياه وأنواعه، نظرا لأنواع النفايات المتعددة ولضعف عمليات الفرز في لبنان، لا سيما ان هذا البلد «الأخضر»، لم يعتمد يوما سياسات بيئية تقوم على التخفيف والفرز، خصوصاً فصل تلك النفايات المنزلية المصنفة خطرة كالبطاريات والأدوية على أنواعها والأدوات الالكترونية والمبيدات وغيرها والتي تشكل ما يقارب 4% من النفايات المنزلية.
أما اذا عدنا الى الرمي العشوائي في الأماكن غير السكنية (البورات) أو في الوديان كما يحصل حاليا في ظل هذه الأزمة وتأخر الحلول، فإن المشكلة لن تقتصر على إعادة إقفال مجاري الأنهر فقط، بل سيمتد الضرر ليتسبب بتدمير الحياة البرية والتنوع البيولوجي، مع العلم ان الأكياس البلاستيكية على سبيل المثال، التي باتت تعتبر من أنواع النفايات الأكثر ظهورا في الطبيعة، تضر كثيراً بالبيئة لكونها مادة ثابتة لا تتحلل بسرعة وتحتاج بين 30 إلى 50 سنة لتحللها، مع ما تتركه من أثر سلبي على البيئة الزراعية أو على التربة والمياه الجوفية، مع العلم أيضا ان النايلون مصنوع من مواد بترولية ومواد كيميائية مضرة.
وتساهم وتعمل هذه الأكياس على عزل التربة أي عدم تثبيت الكربون والنيتروجين فيها، إضافة إلى سد مصارف المياه ونفوق الحيوانات من جهة، وتشويه بصري من جهة أخرى، ما يُضرّ بالناحية الجمالية والسياحية عندما نشاهدها على الطرق الخارجية والأسوار والأشجار، إذا ما رُميت في الوديان والمكبات العشوائية.
وقد تطول لائحة المضار والمخاطر اذا أردنا ان ندخل في تفاصيل إضافية، طالما تناولناها قبل اعتماد مطمر مركزي وحصر الضرر فيه. واذا طبقنا المعايير نفسها لإدارة الكوارث ولتقييم الأضرار والمفاضلة بينها، فإننا يمكننا القول، بدون تردد، انه لو تم حصر الضرر في المكان نفسه (مطمر الناعمة)، مع تحسين الشروط لناحية أخذ الخيارات (الرسمية) المبكرة بتوسيع أماكن الطمر وتجهيز المكان وتوسيع درجة العزل، وتحسين نظام سحب السوائل والعصارة ووضع الأنابيب اللازمة لسحب الغازات المنبعثة وتوليد الطاقة الكهربائية وتوزيعها على القرى المجاورة،
وذلك إلى حين إيجاد الحلول الإستراتيجية، لكنا الآن أمام خيارات أقل ضررا على الإطلاق من الحالة الحالية ومن كل ما هو مطروح من خيارات الآن لمعالجة الكارثة والتي يمكن تصنيفها في معظمها بالعشوائية والضارة جداً.
مع الإشارة إلى ان الحلول الإستراتيجية التي طالما تناولناها قبل وقوع الكارثة، تقوم على التخفيف من إنتاج النفايات عبر اعتماد نظام ضرائبي جديد ووضع الرسوم على المواد التي تتحول الى نفايات خطرة أو إلزام الشركات المنتجة أو التجار باستردادها عبر نظام خاص، ووضع الضرائب على السلع أو أغلفتها التي لا تتحلل أو كلفة معالجتها عالية وإعادة نظام الردم بدل الكب للمشروبات على أنواعها، واعتماد نظام الفرز في المصدر والمعمل والتخمير (المواد العضوية مع إمكانية إنتاج الطاقة منها) وإعادة التصنيع… الخ.
فلو جرت المناقصات على هذا الأساس، لما كنا أمام هذه الكارثة الآن التي باتت تحتاج الى إدارة خاصة تخرج عن القواعد والمعايير البيئية. والأمر لم يفت بعد.