وُوجِهت مقابلة مجلة «أتلانتيك» مع الرئيس الأميركي بكمّ هائل من الانتقادات، مفادها أن أوباما تخلى عن الدور التاريخي للولايات المتّحدة، مفسحاً المجال أمام قوى إقليمية كي تستفيد من الفراغ الذي تركه وراءه. بيد أنّ هذه القراءة لتصريحات أوباما الأخيرة، وإن كانت تصحّ في المدى القريب، تتجاهل القناعة الاستراتيجية التي عبّر عنها، والتي لا تختلف كثيراً عن مقابلة الصحافي توماس فريدمان له حول الاتفاق مع إيران قبل بضعة أشهر. ومفاد هذه القناعة، بخاصة بعد تجربة العراق، أنّ الشرق الأوسط أصبح منطقة «غير قابلة للحكم». لم ينف الرئيس الأميركي دور بلاده في أزمة المنطقة، ولكنه برر قناعته بالاستناد إلى بقايا خطابات «استشراقية» عن صراع أزلي بين «قبائل»، ليستنتج ضرورة عدم التدخّل في صراعات كهذه مقارنة بتدخلات «أنفع» في آسيا أو جنوب أميركا، قالباً رأساً على عقب المقولة المعتادة القائمة على ربط الاستشراق بالتدخّل الكولونيالي.
بهذا المعنى، يمكن اعتبار موقف أوباما أقرب بكثير إلى «روحية العصر» من مواقف نقّاده، أكانوا من الليبراليين الداعمين للتدخّل الخارجي أو محافظين جدداً. فمن جهة، بات هناك ميل «انعزالي» يخرق الحدود الأيديولوجية المعتادة في الغرب، ويرفض التدخّل المكلف لحل النزاعات «البعيدة». ومن جهة أخرى، هناك قناعة غربية بأن الشرق الأوسط بحدوده الحالية وأنظمته المتهاوية لن يُصلَح عبر تدخّل أو عدمه، وأنه بات أشبه بمشكلة يجب إدارتها بحماية الحدود من عدواها المحتملة، وتحويل دول الجوار، كتركيا، حاميةً لهذه الحدود. من هنا انتقاد أوباما للحلفاء الموكلين إدارة هذه المنطقة غير القابلة للحكم، والذين باتوا يعانون أزماتهم الخاصة. فمقابلة أوباما أقرب إلى تحدٍ رفعه في وجه الحلفاء في العالم، مفاده أنّ الشرق الأوسط يحتاج إلى عملية تدخل سياسي وعسكري ضخمة، وأنّ الولايات المتحدة، بوصفها أقل المتضررين تضرراً من هذه المنطقة، غير قابلة أو قادرة على قيادته.
وعلى رغم المذاق الكولونيالي لكثير من هذه المواقف أو النقاشات، بخاصة تلك التي تدور في الصحف حول ضرورة إعادة رسم حدود الشرق الأوسط، تبدو اليوم الخلاصة القائلة إنّ المنطقة في أزمة بنيوية لن تخرج منها إلاّ بعد عملية إعادة هندسة سياسية ضخمة منطلقاً لا مفر منه. فقد جاء الإعلان الأخير لأحزاب كردية بتبني «الفيديرالية» كمسوّدة للحل في سورية، وإن كانت قابلة للتفاوض، ليؤكد أنّ حدود المنطقة وطبيعة أنظمتها باتت على المحك. وربّما كان قرار الفيديرالية إعلاناً من أصحابه الأحزاب الكردية عن عدم انتمائهم إلى المنطقة غير القابلة للحكم، وطلب عضوية في دول الجوار التي تديرها. وليس التقاء المعارضة السورية والنظام البعثي على الرفض المبدئي لهذه الصيغة إلاّ تأكيداً بأنّ ثنائية الثورة باتت غير قادرة على حل المشاكل التي تواجه سورية، وبدأت تُستبدل بثلاثية أشبه بالوضع العراقي. ويتكرّر ترابط مسألة الحدود بأزمة طبيعة النظام في الدولتيّن المجاورتين لسورية. ففي العراق الذي يشهد فشل المحاولة الفيديرالية، تتفاقم المسألة الطائفية مصحوبة بأزمة معيشية، لتطرح معضلة الإجماع السياسي وطبيعة الحدود واستمراريتها. أما في لبنان، فأزمة النظام التوافقي أخذت شكل فشل المؤسسات المركزية في إدارة الإجماع السياسي والاقتصاد الوطني وصولاً إلى مسألة النفايات. ويشهد البلد محاولات متزايدة للانفكاك عن هذه الدولة، أكان «عسكرياً» أو «طائفياً» أو «خدماتياً».
فما يجمع الدول المنكوبة هو الترابط بين فشل النظام في إدارة عملية الإجماع السياسي والانهيار المحتمل للحدود الضابطة للحقل السياسي، وهو ما يخلق تداخلاً بين الأزمات. وبالعودة إلى مقابلة الرئيس الأميركي وتحديه، وفي مواجهة ترابط الأزمات الثلاث التي تشكّل هذه المنطقة «غير القابلة للحكم»، بات لكلام عن تدخّل أميركي لدعم المعارضة أو تدخل روسي لتعديل موازين القوى يتجاهل عمق الأزمات التي تواجه هذه المنطقة، والتي قرر أوباما التخلي عنها ببساطة لأنه يستطيع. وهنا لم يخطئ في تقديره أنّ أي تدخّل في سورية، مهما كان محدوداً، سيتطلب في ظل هذه الأزمات تدخلاً أوسع لإدارة ما سيخلفه هذا التدخّل، والذي بات يستحيل على الولايات المتّحدة، بكل عظمتها، القيام به. وفي وضع كهذا، أخذ أوباما على عاتقه الانسحاب من منطقة رأى أن لا جدوى من التدخّل فيها بحيث يورث الرئيس المقبل سياسة خارجية أقل أعباء.
غير أن تحدي أوباما ليس موجهاً حصرياً الى حلفائه السياسيين، فهو ينطوي ضمناً على سؤال موجه إلى سكان منطقة الموت هذه. فهو، من جهة، أقرّ بما قد يكون المقولة الأساسية لجميع منتقدي السياسات الأميركية، بخاصة منذ احتلال العراق، وهي أنّ التدخّل الخارجي أحد الأسباب الأساسية لأزمات هذه المنطقة، مفضلاً الانكفاء عن هذا الدور. لكنه أعلن، من جهة أخرى، انتهاء أهمية هذه المنطقة، ودخولها في حال من الفوضى والقتل، بحيث لم تعد تحتاج إلى أكثر من شرطة حدود تضبط تأثيراتها.
لقد رحل أوباما عن المنطقة، لكنّه أخذ معه كامل المقولات التي أكدّت على مدار القرن الفائت أهمية ومركزية الشرق الأوسط للعالم، من تلك الجيو-استراتيجية إلى المسألة الإسرائيلية، وصولاً إلى النفط ومن بعده الإرهاب. أما أيتام هذه القضايا، فلم يبق لهم إلاّ مواجهة حقيقة جديدة، وهي أن ميزتهم الأساسية باتت أنّهم سكان منطقة غير قابلة للحكم.
وقد تحتاج المرحلة الجديدة خطوات كالتي قام بها بعض الأحزاب الكردية في طرح مسألة الإجماع والنظام والحدود، على رغم كل الاعتراضات التي يمكن أن توجه إلى هذه الخطوة. بيد أنّ الالتفات إلى تلك المسائل يحتاج إلى إعادة بحث في المنظومة السياسية العربية، بعيداً من القضايا الكبرى باتجاه أهداف أكثر تواضعاً، لا تدعي تحقيق شيء أكثر من بناء مجتمعات أقل قسوة من التي نعيش فيها. وخطاب كهذا قد يغري العالم الخارجي بالعودة إلينا أكثر مما يفعل عرض مصادر أهميتنا المعتادة، من النفط إلى شريط لـ «داعش» أو تهديد باحتمال قنبلة نووية.