لم تكسر التطورات المتسارعة في كردستان، المعادلة الماسيّة القائلة بأنّ البدايات الغلط توصل إلى نتائج غلط..
كان من غير المفهوم أساساً، أن يطلق مسعود البرزاني تلك المغامرة – المقامرة، بإعلان الاستفتاء تحت راية «الاستقلال» عن العراق، فيما كل شيء من حوله، (كلّ شيء!) الظاهر والواضح منه، والمخفي والمستور، يقول إنّ الخَلّ الوفيّ أقرب إلى التحقق من المشروع المطروح. وإن الإرادة الذاتية وحدها لا تنتج وقائع عامة.. وإن القراءة الناشفة لبعض المعطيات لا تلغي ضرورة التمعّن أكثر في تفسير تلك المعطيات وفهمها، وليس الاكتفاء بقراءتها!
إفترض السيّد البرزاني، أنّ الإرهاق الذي يعانيه العراق بجملته، والمتغيرات الميدانية (والديموغرافية)! التي صاحبَت الحرب على «داعش»، والدور المركزي الذي لعبه الكرد في هذه الحرب، وإشهار الأميركيين سياسة ودّية وتحالفية إزاءهم، وانشغال الإيرانيين بحروبهم الكثيرة والعبثية والمدمّرة، والأتراك بتداعيات الوضع السوري وتأثيراته على الداخل عندهم، وظهور مستجدات سلبية في علاقاتهم التاريخية مع واشنطن «والناتو» تضاف إلى سوء علاقاتهم بالأوربيين عموماً، ثم اكتمال المقوّمات الذاتية، إدارياً ومالياً وأمنياً وعسكرياً.. إنّ ذلك وغيره يفتح في مجمله، الطريق إلى التقاط فرصة غير مسبوقة منذ تجربة «جمهورية مهاباد» للعودة إلى إحياء المشروع الأبدي المتمثل بالاستقلال، وإن بالتدرّج، وفي حيّز جغرافي لا يتخطى حدود «القطر» العراقي!
وتلك قراءة لا تعوزها الوجاهة. لكن في موازناتها هناك قراءة أخرى مناهضة، وتستند إلى وقائع ثابتة وراسخة، ومن قلّة التدبير والحصافة تجاهلها من قبل «الرئيس» البرزاني، وخصوصاً في قضية استراتيجية كبرى مثل الاستقلال عن العراق!
كأنّ البرزاني انخرط في المغامرة – المقامرة وحاول «بلف» الآخرين بأوراق لا يملكها. وأوّلهم على ما تبيّن، أنداده التاريخيون أتباع الرئيس الراحل جلال طالباني.. وغيرهم كُثر من الذين افترضوا أنّ خطوة الاستفتاء «لا بدّ» وأن تكون منسّقة مسبقاً مع جهة موزونة ومقتدرة مثل الولايات المتحدة! أو روسيا؟ أو إنه أعطى ما يكفي من «ضمانات» إلى جيرانه الشرسين في طهران وأنقرة!
تبيّن (بسرعة) أن لا شيء من ذلك على الإطلاق! وإن البرزاني في نقطة ما، رَكَبَ رأسه! وتجاهل برعونة أن حيدر العبادي ليس غريمه الوحيد في هذه المنازلة! وإن الإيرانيين والأتراك سيطمرون تحت سابع أرض، أي قضايا خلافية بينهم في سبيل الاصطفاف المشترك ضدّه وضد مشروعه ونيّاته! وإن لا الأميركيين ولا الروس في وارد السماح لأحد بتشتيت تركيزهم على القضايا الكبيرة التي تهمّهم راهناً، والتي يرونها (بالتأكيد) أهم بأشواط من جنوح مكوّن كردي إلى اللعب المتسّرع بالخرائط والحدود، أيّاً تكن مسمّيات وعناوين ذلك الجنوح.. ثم جاء موقف الطالبانيين ليكمل حلقات ذلك العقد المبَكّل والمقفل!
والأغرب من ذلك كلّه، هو أنّ «عودة» بغداد إلى كركوك، أظهرت مدى هشاشة الادّعاءات والحسابات البرزانية بالمعنى الميداني بعد السياسي! وكان محقّاً مَن افترض منذ البداية، أنّ الاستفتاء لن يصطدم بالحائط فقط، إنما سيسقطه أرضاً وسيفتح الطريق أمام تهديد المكتسبات التي راكمها إقليم كردستان على مدى الأعوام الماضية والتي (تكراراً) يتفق كثيرون على أنها أوصلته إلى أكثر من الحكم الذاتي وأقل (بقليل) من مرتبة الدولة المستقلة تماماً!
غامر البرزاني وخسر.. وأسوأ ما في وضعه (الذاتي!) هو أنّه لا يستطيع ترداد القول المأثور: «لو كنت أعلم»!