الجزء الأكبر من الكلام الذي يُقال عن «التطورات» المتوقعة في الوضع السوري، وذهابها باتجاه مصلحة الرئيس السابق بشّار الأسد، لا يصدقه حتى بشّار الأسد نفسه!
هذا الرجل تليق به كل الأوصاف العدمية والعبثية والإجرامية، بما فيها اصطناعه الغربة عن الواقع، أو إعطاء إشارات إلى إصابته بانفصام في الشخصية، لكن الأكيد هو أنه في مكان ما شديد الواقعية.. حتى عندما يتصرف ببلاهة وبتقصد الاستفزاز، من نوع ممارسة الطقوس التي تدل على أنه لا يزال «رئيساً» لـ«دولة» اسمها سوريا! وأنه يأمر أو يوعز بإجراء انتخابات نيابية، او تعيين «حكومة» وإعادة توزيع «الحقائب الوزارية» على «وزراء» جُدد.. إلخ. حتى في هذا الأداء المقصود منه الاستفزاز والنكد والكيد، لا يريد سوى إعطاء وتأكيد الانطباع بأنه «يعرف» تماماً ماذا يجري في سوريا وحولها وفي شأنها، لكنه باق على الفته مع طبائع التركيبة السلطوية، ومع مبادئها الأصيلة والأصلية القائلة باختصار شديد أن شعار «سوريا الأسد» هو أكثر الشعارات «واقعية» في التاريخ! وهو الذي يعني شيئاً واحداً لا ثاني ولا ثالث ولا رابع ولا خامس.. ولا عاشر له: إما أن تبقى هذه السوريا تحت الحكم الأسدي وإما أن تُباد حرفياً وبكل معاني الإبادات البشرية والعمرانية! تماماً مثلما هو جارٍ وحاصل منذ خمس سنوات وبضعة أشهر كالحات!
.. حتى بشّار الأسد يعرف أن ما «يُقال» من حوله، إيرانياً أو روسياً، من أنه خط أحمر أو ممنوع من السقوط، أو أن «وقته» لم يحِن بعد.. لم يعد أمراً ممكناً ولا واقعياً. وأن العودة بسوريا إلى الخلف، إلى الوراء «البعثي»، صارت شيئاً من الخيال الأسود والبشع الذي لا يجوز التحليق على جوانحه طويلاً وكثيراً. وأن «وظائف» السلطة، محلياً وخارجياً، تبخّرت بالنار والحروب وقنابل الغاز والكيماوي. وأن «سيادة» الدولة والكيان صارت نكتة لا تليق بفكاهي من الدرجة التيرسو! وأن استمراره «واقفاً» على قدميه في قلب دمشق ليس نتيجة قوة ركابه وكثافة عظامه، وإنما لأن ساكن البيت الأبيض فوّض الروس من جهة والإيرانيين من جهة تركيب بدائل خشبية له، كي يبقى في مكانه، حتى استنفاد كل أو جلّ المطلوب من نكبة سوريا! أكان ذلك يتعلق بسوريا ذاتها، بجيشها ودورها. أم بتركيبتها البشرية ام بكونها صارت أهم حقل جاذب لكل صنوف الإرهاب في هذه الدنيا. أم باعتبارها مساحة غير مكلفة! للاقتصاد الدولي، وغير مؤثرة في حركة الطاقة حفراً وإنتاجاً وتوزيعاً! لكنها «الأفضل» لجبه الإسلام الأكثري وخضّه، إذا جاز التعبير، لدفعه، على ما تقول النظرية الأوبامية الخبيثة والقاصرة والمفترية و«المتآمرة» إلى «تطهير» ذاته ومواكبة الحداثة الراهنة، حيث الإرهاب فيها، توحّش بدائي آت من القروسطية ومناخاتها!
أول من يعرف أن زيته نشف هو بشّار الأسد نفسه! وأول من يعرف أنه لم تعد لديه إمكانات لأي وظيفة، بما فيها الأغلى والأعز على قلبه، ومفتاح حكمه وتحكمه والتي ورثها كما هي، عن أبيه، أي حماية حدود إسرائيل الشمالية من جهة الجولان والمحافظة على الستاتيكو القائم فيها منذ هدنة العام 1974.. حتى هذه الوظيفة لم يعد يملك مقومات وأدوات الالتزام بها وبشروطها ومتطلباتها.. تماماً، مثلما أنه كان «الوحيد» (على ما افترض) الذي لم يصدّق الكلام الذي قيل قبل المحاولة الانقلابية التركية القاصرة والفاشلة، عن تغيير مرتقب في موقف الرئيس رجب طيب أردوغان منه استناداً إلى جملة معطيات أبرزها تحديات النهوض الكردي و«مخاطره» على الأمن القومي التركي… لم يصدق شيئاً من ذلك، لأنه «يعرف» (أم ماذا؟!) أنه ما عاد عنده أي وجود أو دور أو قدرة للتأثير في حركة الميدان في «الشمال الكردي»! بما يفيد المصالح العليا التركية! وكان محقاً في اعتقاده تماماً بتاتاً!
أول وأكثر من يعرف بشّار الأسد هو بشّار الأسد نفسه.. يعرف أنه صار جثة سياسية. وأن البازار الإقليمي والدولي المفتوح يطال (ربما) كل شيء يتعلق بمصالح وغايات وأهداف المنخرطين في النكبة السورية، لكنه ينطلق من بديهة حاسمة تفيد بأن الكلام عن راهن سوريا ومستقبلها ينطلق من جذر مفاده أن الماضي مضى واندثر.. وأول ذلك الماضي هو الحكم الأسدي!