IMLebanon

دفاعاً عن الوهم الجميل

لا بد من التعليق على اللائحة التي أصدرها من لا نعرف عن «شيعة السفارة» الأميركية. ليس ضرورياً أن تكون مؤيداً لوجهة نظر هؤلاء كي تدافع عنهم (ومنهم من وصلته تهديدات أدت به للخروج من البلد). بعضهم يكرهونك وبعضهم أنت تحتقرهم. لكن الموضوع الأساسي هو هو الحريات، أو ما تبقى منها لنا في لبنان. في المبدأ، الجميع لهم حق التعبير عن رأيهم.

الطوائف سلبت اللبنانيين حق الهوية وبالتالي حق الحرية. تختطف كل طائفة هوية كل منا عند الولادة. وعندما تكبر، ومهما تطور فكرك، ومهما تغيّرت آراؤك ومعتقداتك (ومنها الدينية والمذهبية) فأنت تبقى ابن الطائفة، وتبقى في عداد الرعية القطيع؛ وغير مسموح لك أن تخرج منها إلا لطائفة أخرى. هناك ضرورة شبه بيولوجية لأن تبقى في القطيع. والقطعان يتوارثها أبناء البيوتات. حتى هؤلاء يمكن أن يكونوا أكثر رحمة من زعماء الطوائف الإيديولوجيين. هناك تنوع بيولوجي أكثر مما في الإيديولوجيا. إيديولوجيا الطوائف أكثر صلابة وتماسكاً من غيرها.

الجو خانق أكثر مما كنا نظن. يحتقرك أبناء البيوتات؛ طبعاً، فأنت مكانك في القطيع وحسب. أما الزعامات الإيديولوجية فهي تسخر منك. هي غير مضطرة حتى إلى الحديث إليك وتوجيه النصح بأن تبقى في القطيع. يتوجب أن يأتي اقتناعك من ذاتك بأنك ابن القطيع. هو القطيع ذاته، لكنه يتجدد بإيديولوجيا تنخر عظمك وتتسلل إلى دماغك، وتلغي الانفصال بينك وبين الزعامات الجديدة. تصبح متماهياً معها. يصير الذل جزءاً من شخصيتك. لا ترتفع، مع هذا التطور من مستوى الرعية إلى مستوى المواطنة. بل تهبط إلى مستوى الحشرة. ليس أكثر من النمل والفئران انضباطاً في الصف.

كنا نتوهم أننا بالمقارنة مع البلدان العربية الأخرى (أنظمة الاستبداد)، قد أنجزنا تجارة تبدو رابحة مع النظام. كنا نتوهم أنه مهما كان النظام اللبناني استبدادياً في جوهره، إلا أننا بالمقابل نحوز لبنان الجميل، لبنان الذي تستطيع الجلوس في أي من مقاهيه على الرصيف وتتحدث علانية عن سلبيات الزعماء والزعامات. كنا نتوهم أن لدينا ما ليس لدى الآخرين من العرب، وهو نمط العيش. وكنا نتوهم أنه مهما حصل فإنهم (الطبقة السياسية) يمكن أن يأخذوا كل شيء آخر ويتركوا لنا الوهم الجميل أي نمط العيش. إذا بنا نكتشف بأن هذا النمط من الحرية يصير وهماً؛ وربما كان كذلك ولم نعرف. جاء الآن من يوقظنا وينبهنا إلى حقيقتنا. الإيديولوجيون أعتى من أبناء البيوتات.

هم أخذوا كل شيء آخر، صادروا الأساس الاقتصادي لنمط العيش؛ دمروا الطبقة الوسطى، ومن لا يعجبه الأمر فليهاجر أو ليبقى أسير الفقر والبطالة والخضوع. زالت الطبقة الوسطى، وزال معها ما تبقى من حرية الرأي. سيطر الإيديولوجيون. فما عليك إلا تنضوي. هناك قضايا كبرى أنت لا تعرفها وتستطيع المشاركة فيها. أنت أداة تنفيذية وحسب.

منذ زمن طويل لم نشاهد في شوارع المدينة العظيمة تظاهرة شعبية مطلبية. كلها تظاهرات يقودها الإيديولوجيون من هنا وهناك. التظاهرة الوحيدة التي كانت جدية هي المتعلقة بسلسلة الرتب والرواتب. وهذه أصبحت في خبر كان. يقال إن القطاع المصرفي كان وراء دفنها. يبدو أن التحالف بين أصحاب الإيديولوجيا وأصحاب المصارف أشد وأقوى مما كان بين أبناء البيوتات والمصالح المالية. ليس صدفة أن «الشعب» و «الطبقة» تلاشيا في عهد الإيديولوجيين لصالح أرباب المال. أما من هو عدة الشغل عند الآخر، فهذا أمر يقررانه بينهما. يعرفون شيئاً واحداً: هم يتقاسموننا بعد أن كانوا يتقاسمون نتاج عمل الشعب بطبقاته الدنيا.

الوحش الإمبريالي الأميركي له سفارة عندنا. لدول المنطقة سفارات عندنا. هم يعقدون صفقات مع الوحش، ليس من خلال السفارة، بل في أوروبا الأكثر رقياً. الحروب الأهلية في المشرق العربي هي حرب واحدة يشنها النظام العربي ضد شعوبه، ضد الأمة. كانت حكومات الأنظمة خلال العقود الماضية متحالفة ضد شعوبها. الثورة العربية هزت هذا التحالف. دخلت الأنظمة العربية والإسلامية في صراع على السلطة. نحن في لبنان ندافع عن هذا الفريق من النظام العربي ضد الآخر. نستخدم مختلف الحجج الإيديولوجية. لكن الأمر الأساسي هو أن من يدافع عن نظام حكم يصبح شبيهه. بالدفاع عن نظام ما، يصير المدافع جزءاً منه، وينحاز ضد الشعب؛ بالأحرى ضد طبقات العامة، وأكثرها من الفقراء المعدمين. لا فرق إذا كنت يسارياً أو يمينياً. تقدمياً أو رجعياً، طائفياً أو علمانياً، فأنت بدفاعك عن نظام حكم ما تصبح شبيهاً له وعدة شغل عنده.

كمُّ الأفواه في لبنان لا يأتي من العداء للوحش الإمبريالي، بل من الانضواء عالمياً تحت راية هذا الوحش. اختلطت المقاييس؛ دخلنا في مرحلة مظلمة من التعمية وتشويش الوعي. سنكون محظوظين إذا استطعنا الحفاظ على سويتنا العقلية.

ختاماً، ينقسم اللبنانيون إلى فريقين واحد في 14 آذار وآخر في 8 آذار، وكل منهما يمتلك حقيقة ما، والحقيقتان خطان متوازيان لا يلتقيان إلا بمشيئة الله. ما لا يدركه معظم اللبنانيين هو أن في كل من الحقيقتين تخلياً عن «الوهم الجميل» بأننا أحرار.

يلزمنا الآن كثير من النسبية الفكرية والأخلاقية كي نتخلص من الحقائق القاتلة وكي نسترد بعضاً من روحنا. تموت الروح من دون الحرية، حتى لو كانت الأفكار الناتجة عنها خاطئة.