تشبه بعضها بعضاً علامات النصر المرفوعة بالأيدي أو بالتصريحات والمواقف، في هذه الأيام، من طهران إلى دمشق إلى بيروت.
ووجه الشبه الواحد برغم الجغرافيا المتعددة، هو أن علامات «الانتصار» و«الإنجاز» هي الوجه الآخر لعلامات انكسار وتصدّع وبلاء أصابت في موضع «الأهل» والملّة والأمة والدولة والاقتصاد والاجتماع والأمن القومي والثروة الوطنية والنص الديني.. إلخ، وتلك وصلت في حدة انحدارها إلى حدود عدم قدرة بعض ضحاياها على توصيف إصاباتهم. ومستوى خساراتهم. والمدى الذي وصل إليه خلل الرؤية عندهم، فراحوا في الغشيان إلى اصطناع معادلة مهزومين ومنتصرين فيما الكل على الأرض يسفّ التراب ويغوص في الوحل!
والمعضلة في خلل الرؤية تعكس أزمة أكثر عمقاً في المقاييس والمفاهيم. بحيث يتفاخر «المنتصر» في كل حال، بأنه أقل انكساراً من خصمه أو عدوه، لكنه لا ينتبه إلى الصورة الشاملة! ولا يريد الخروج من راهنية اللحظة أو الرغبة في قطعها عن سياق التاريخ.. يرفع شارة النصر أو عقيرة الصوت والبيان والتحليل والقراءة، ويقطع ذلك كله عن حقيقة أنه وضحيته صنوان بالتمام والكمال!
«منتصر» اليوم هو وريث هزيمة الأمس ومورث هزيمة الغد! واللعبة جارحة وقارصة وشديدة اللؤم. والكل فيها سواء: حروب تستنزف الثروات والقدرات. وتطحن دولاً وشعوباً بالجملة. تستند إلى التاريخ ولا تأخذ بعبره. وهي في الإجمال عِبر أوضح من قدرة الراهن على طمسها. وتقول إن «حروب الأهل» والفتن الموازية وخصوصاً تلك الصادرة عن تمايز ديني، إنما هي خسائر صافية لجميع عناصرها، وبلاؤها عام حتى وإن أصابت محنة العقل بعض منتجيها ومصنّعيها إلى حدود افتراضهم أن غريزتهم أقوى وأعقد وأكثر عنفاً من غريزة غيرهم!
لكن «الخسارة» الجامعة لا تعني مسؤولية جامعة! ولا تعني شيوع البلاء (أو الوعي) بالتساوي: بل الواقع يفيد بعكس ذلك. وهذا متأت من أزمة المقاييس والمفاهيم المؤسِسة عند من لا يرى ضيراً في تحطيم دولة كاملة مثل سوريا لأن «مشروعه» يستوجب ذلك! ولا يرى خللاً في فظاعات لا تُوصف تلحق بعرب ومسلمين، لأن إمساكه بالسلطة يستوجب ذلك!.. يستعيد باحتفالية موبوءة ذكريات «مجازر» ارتكبها الإسرائيليون في حق عشرات من الفلسطينيين ولا يخجل لحظة، من مجازر يرتكبها «مشروعه» و«مقاومته» بحق مئات الألوف من السوريين والعراقيين! بل لا يخجل حقيقة من تأسيسه لوعي خطير مبني على المقارنة بين ما فعله «مشروع لصوصي» اجنبي في فلسطين، وما يفعله مشروع استحواذ وغلبة باسم «الإسلام» و«المقاومة» و«الممانعة» في طول دنيا العرب وعرضها!
في منظومة قيم «الممانعة» هذه تضيع القياسات في السياسة والأخلاق، ويصير البؤس إنجازاً، والانتحار انتصاراً والخرافة تنويراً. وفي ذلك يستوي بناء مشروع «الولي الفقيه» منصة نفوذ فوق فقراء اليمن. ودماء العراقيين ونكبة السوريين وأزمة اللبنانيين، مع رفع معتوه في دمشق أو صنعاء أو عند حدود الموصل، عقيرة غيّه وغشيانه إلى مرتبة النشيد الانتصاري.. والإلهي!