أمران لافتان بَرَزا بالأمس في سياق الحرب الناعمة الدائرة راهناً بين الولايات المتحدة وإيران. الأول هو «دعوة» إدارة الرئيس دونالد ترامب الحلفاء والأصدقاء إلى الامتناع عن شراء النفط الإيراني.. والثاني دعوة «المرشد» علي الخامنئي إلى التصدي لمن يُهدّد «الأمن الاقتصادي» (داخلياً!) واتخاذ ما يلزم من إجراءات عقابية في هذا المجال.
والأمران يلتقيان، كلٌّ من جهته، عند نقطة الانهيار الضارب بالعملة الوطنية الإيرانية واستمرارها في التراجع إلى مستويات غير مسبوقة إزاء الدولار الأميركي والعملات الصعبة في الإجمال.
الأميركيون يطلقون دعوة الامتناع عن شراء النفط برغم معرفتهم الأكيدة بعقم هذه الدعوة عملياً.. بحيث أنّ الصين وحدها يمكنها استيعاب جلّ المنتوج النفطي الإيراني وتظل تطلب المزيد.. ومثلها الهند! وبالتالي فإنّ واشنطن تقول شيئاً وتقصد غيره! تتحدث عن المشتريات النفطية وعينها على العملة الإيرانية. وكلامها السلبي غير عملي في المعطى الأول لكنه مؤثّر في المعطى الثاني. أي أنها تعرف (وهي عصب المال ورأسه في هذا العالم) أن أسعار العملات الوطنية في أي دولة تخضع لعوامل حسّية ورقمية وعلمية ومادية وملموسة، لكنها في الوقت عينه، وربما بالقدر نفسه، تخضع لعوامل موازية غير منظورة أبرزها الهلع والخوف وفقدان الثقة وسائر منظومة التأثيرات «النفسية» المألوفة!
واشتراط اكتمال التوازن بين تلك المعطيات، يتعلق بالسياسة والأمن قبل الأرقام الاقتصادية.. والهشاشة مفتاح: التأزيم في الشأنين الأولين يعني تأزيماً في الشأن الثالث. وهذا في علم المال والأسواق والبورصات صاعقُ كارثة تامة، لا يحتاج سوى إلى التفعيل!
إيران في أزمة كبرى. جراء عودة العقوبات القارصة وتعليق العمل (أميركياً) بالاتفاق النووي. وهذه الأزمة مفتوحة على الأسوأ، خصوصاً أنها تعني مواجهة واضحة مع الأميركيين تحديداً.. لكنها مواجهة لا تزال «ناعمة»! وعلى البارد! و«العقول» فيها لا تزال أَولى من القبضات والحديد والنار! وفي هذا تعرف واشنطن يقيناً حقائق الاقتصاد الإيراني وأوضاع المالية العامة! مثلما تعرف (على ما كان يقول الشيخ الراحل هاشمي رفسنجاني) حقائق القوة العسكرية الإيرانية بكل فروعها وأبوابها وعناوينها وقطاعاتها.. ولأنها كذلك، أي على ذلك القدر من المعرفة والاطلاع، تعتمد (وستبقى تعتمد!) المقاربة الضاغطة عن بُعد على الخاصرة الرخوة في الجسم الإيراني المتعب أصلاً نتيجة السياسات المتراكمة لدولة «الثورة» على مدى السنوات الماضية!
بهذا المعنى، ليس أدلّ على ذلك التعب من قدرة تصريح أميركي «غير مباشر»، على وضع المزيد من الضغوط السلبية على العملة الإيرانية دافعاً إيّاها إلى المزيد من التدهور.. لكن الأكثر دلالة من ذلك، هو أن يُصدر «المرشد» تعليماته لمواجهة المتلاعبين بـ«الأمن الاقتصادي» في الداخل الإيراني! والمقصود هنا هم تجار العملة.. وأهل البازار التاريخي الذين لعبوا أدواراً كبرى في الثورة على الشاه محمد رضا بهلوي، وفي المرحلة التي تلت سقوطه.
المفارقة، أن صاحب الشأن في طهران، صار يُحذّر ويدعو إلى التنبّه من «أعداء» محتملين في الداخل بقدر تحذيره من الأعداء الأكيدين في الخارج.. والأمر جدّي واستدعى إصدار السلطات المعنية يوم أمس قوانين تقضي بإصدار أحكام تراوح بين السجن لعشرين عاماً والإعدام في حق من يتلاعب بأسعار العملة ويُهدّد «الأمن الاقتصادي» للبلاد.. وإضراب تجار البازار جزء من ذلك التهديد، والرسالة واضحة.. وطبعاً عُلِّق الإضراب، لكن الأزمة مفتوحة!
تنخرط واشنطن في نزاع مفتوح مع طهران، لكنها تعتمد هذه المرة على نقاط ضعف «عدوها» أكثر من اعتمادها على نقاط قوتها هي.. من ذلك أن يتهم مايك بومبيو وزير الخارجية الأميركي، القيادة الإيرانية بـ«تبذير» ثروات إيران ومواردها على «مغامراتها في سوريا ولبنان وغزّة واليمن» (نسي العراق!) ويكون مُحقّاً في اتّهامه وبشهادة أهل إيران نفسها، وعلى الجانبين: جانب المتظاهرين الذين هتفوا بأولوية بلادهم إزاء الخارج. وجانب المتشاوفين الذين طالما تفاخروا بتمدّد نفوذ طهران و«سيطرتها» على أربع عواصم عربية!!
علي نون