لم تتأخر القيادة الإيرانية في القفز من القارب التعبوي (الفكري) الذي وضعها فيه باراك أوباما: عادت بسرعة الى «الأصول» وكشحت الغبار الانفتاحي عن شعاراتها الأخيرة، معيدةً تلميعها وتزويقها، وفي مقدّمها ذلك الشعار الرنّان: «الموت لأميركا».. ثم الآن «الموت لترامب».
كثُر «لاحظوا»، أنّ الاتفاق النووي، الذي أنتج رفعاً للعقوبات الاقتصادية، ترافق مع جملة خطوات ذات دلالة، من بينها محو معظم الشعارات والإعلانات واللافتات المناهضة للأميركيين. وإزالة المؤشرات الرمزية الى «الشيطان الأكبر».. وما إلى ذلك من ظواهر أريد منها التأكيد على أن طهران قادرة على التكويع وإن ببطء على طريقة استدارة الفيل، والاستمرار في الوقت ذاته باعتماد سياسة ملائمة، من طراز الانفتاح على العالم الخارجي (وعلى رأسه الولايات المتحدة) والإطباق على المحيط العربي والإسلامي وعلى رأسه المملكة العربية السعودية.
وذلك، أفضى في اللغة التعبويّة المحتاجة دائماً الى تعبئة خزاناتها، الى استبدال مضمون الشعار والإبقاء على شكله. فصار الموت المطلوب دائماً لـ«الأعداء»، موضع مناشدة ودعاء لكن للجوار السعودي والعربي وقياداته بدلاً من أميركا وأتباعها، وفي مقدمهم «الانكليز»!
لم تجد قيادة «الثورة» حرجاً في استبدال شعاراتها «المقدّسة»، طالما أن ذلك ذهب في اتجاه تكريس تطلعاتها وأهدافها التمددّية والاستقوائيّة والاستحواذيّة وليس العكس! في حين أنّ قيادة «الدولة» والمكلفين شؤونها السياسية والديبلوماسية دأبوا على تكرار أدبيات وسلوكيات تناسب تكليفهم المتضمن خفوتاً في لغة العداء (إزاء الخارج الإقليمي) من دون إخفاء رهانهم (الفعلي) على أنّ دينامية الانفتاح على الأميركيين والأوروبيين لا بد أن تصل حُكماً الى الداخل الإيراني نفسه، خصوصاً وأنّ رفع العقوبات فتح مسارات كثيرة لخروج الاقتصاد الوطني من دائرة الاختناق.
فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية وبدء مساره الانقلابي على سياسات سلفه، أنهيا رهان «أهل الدولة»، وأعادا الاعتبار الى الآخرين.. الذين، في كل حال، كانوا أكثر وأوّل المستفيدين عملياً وواقعياً من سياسات أوباما التي مكّنتهم من الاستمرار في عملهم لتصدير «الثورة».. ورسّخت إمساكهم بمركزيّة القرار في السلطة بقيادة خامنئي. وسمحت لهم (طويلاً) في دغدغة المشاعر القومية والمذهبية وتأكيد صوابية أدائهم الذي أوصل «حدود» إيران الى جنوب لبنان تارةً، وإلى شواطئ اللاذقية تارة أخرى! بل والقول علناً، إن مجمل حرائق المحيط هي حزام نار يحمي إيران الداخل! ويمنع تلك الحرائق من التمدّد إليها!
المسار العكسي لذلك كله بدأ نظرياً مع ترامب بانتظار ترجمته عملياً! وأبرز ما فيه، أنه لا يتوقف كثيراً أو قليلاً، أمام إزدواجية الأداء الإيراني. ولا أمام الاصطفافات الداخلية ولا التنابذ (أو الاشتباك) القائم بين الإصلاحيين والمحافظين، بل يأخذ «القيادة الإيرانية» بجملتها. وذلك قد يعني من جملة ما قد يعنيه، عودة أشباه محمود أحمدي نجاد الى مركز الرئاسة.. حتى لو تصدى الرئيس حسن روحاني لـِ«نظيره» الأميركي بالأمس وتوعّده بـ«الندم»!