لا يُلام أهل الكلام في هذه الأيام على بعض الارتباك المتأتي عن قراءات ذات هوى وتتناسق مع هذه الفوضى الضاربة بأطنابها في طول الدنيا وعرضها! لكن يُلام مَن يتصدّى لادّعاء لعب أدوار ما عادت موجودة! واصطناع دراية ما عادت متوافرة! وافتراض موضوعية (أو مهنية) صارت عزيزة وغائبة!
ويُلام مَن يفكر بالمقلوب! أكثر بكثير من الذي لا يفكر! أو الذي لم يعد لديه نفس أو دافع على ارتكاب هذه الهواية الفطرية! وخصوصاً الذي يعرض «حقائق» ليستنتج أوهاماً! والذي يعرض «وقائع» ليخلص إلى تخرّصات! والذي يستعين بمناظير مكبّرة ليدلّ العامة على حالات وأماكن لا ضوء كافياً عليها، ليخلص إلى «إضاءات»، يبقى العتم إزاءها أفضل بمليون مرّة ومرَّة!
ويُفهم تقريباً (وبشيء من الجهد) أن يشتغل أهل السياسة على هواهم، وأن يقول الواحد منهم «هذا رأيي. ونقطة على آخر السطر»! لكن لا يُفهم، (ولا يجوز التراخي ازاء هذه المعضلة العويصة) أن تعتمد آلة إعلامية تعبوية ضاربة صارخة على مدار الساعة، من دون انقطاع ولا استراحات ولا استرخاءات، نمطاً تبليغياً يوصل إلى تمكين البلاهة من المتلقي! وإلى إشاعة نوع خاص من «الذكاء» الذي يحلو الغباء قياساً به!
وليس صحيحاً ردّ الأمور الخطيرة هذه إلى فرضية الايديولوجيا العمياء. أو إلى شروط التلقين الشمولي! أو إلى النصّ التعبوي الذي لا تجوز المجادلة فيه! هذه تبريرات يُعتدّ بها ومرموقة ولا يُغفل تأثيرها! لكنها في المحصلة لا تُبرر «النجاح» الفظيع في تشكيل وتطريز وإنتاج منظومة الفشل! ولا في بلورة الضحالة. ولا في قتل غريزة التفريق بين الصحّ والغلط التي تُصاحب البشري منذ لحظات تفتّحه وتجعل منه مخلوقاً مختلفاً عن غيره من مخلوقات هذه الفانية!
هناك في نواحينا وديارنا، مَن استمرأ واستساغ لعبة تلقين العقول مقوّمات العجز! وجَعلَ من مدوّنة الخوف (أو التخويف) بديلاً (لا تعوزه الحصافة) من أجل ديمومة الاصطفاف والضبّ والتحشيد! وأَخذَ من الغريزة عنواناً يفترضه كافياً لإلغاء العقل وأحكامه وبديهياته.. ثم أراد ويريد، تركيب حاصل جمع لكل هذه المعطيات عنوانه القوّة! أو البأس! أو ما شابه من تطريزات عوالم الحديد والنار وساحات الوغى والعدم!
هناك مَن استمرأ واستطاب تربية «ناسه» على فرضية الفسطاطين! وحتمية القتل! وصواب أنشودة «البقاء للأقوى».. غافلاً غاشياً عن قانون النسبية في هذا العصر! الذي يسري على الجميع! ويحيل إدّعاءات الفرادة والقدرة والقيادة والتفوّق، إلى أمر يومي معرّض للتبخيس والفتك والتهتك في كل لحظة! والذي تسري أحكامه وشروطه على الكبير والصغير والغني والفقير والضحل والخطير! والذي ركّع قوى عظمى أمام مجتمعات (وقوى) متواضعة جداً! واستنزف جيوشاً كبرى على أيدي شراذم مسلحة ومتفرّقة! وأحال التكنولوجيا الحديثة إلى خردة صدئة في لحظات الدم والاشتباك!
.. في خطاب أهل الممانعة في نواحينا، عدّة كافية لاستنتاج بلاء آتٍ يبزّ بأشواط البلاء القائم! تبعاً لنجاح منظمة التبليغ عند هؤلاء، في تخمير (وتبخير) المنطق الصحيح وتدويخ متلقيه، وجعل الغريزة هي القياس والمقياس، في صراع لا تعوزه سمة الوجود!