تتكرّر المفارقة القائلة إن إيران تربح في معارك متفرقة، لكنها تخسر الحروب التي تتورّط فيها.. و«حربها» في سوريا أحدث وأبلغ وأشنع مثال على ذلك. والقراءة في هذا المثال، لا تثير إلا الحيرة والاستغراب باعتبار أن حائك السجّاد الممتاز يبني كل سياسته على افتراض أن العالم هو «سجّادة»، وأن إبر الحياكة حكرٌ على اليد الإيرانية، وأن تبسيط المُعقّد والمركّب يكفي عند صاحبه، لإشاعة قدرته الادعائية على جعل الشمس تشرق من الغرب!
والمعضلة المتحكمة بأصل الموضوع وفصله، هي أن ايران تدّعي القدرة وتثبت العجز. وتدّعي الشطارة وتقدّم أدلة على قصر النظر. وتدّعي الخبرة الطويلة والنفس الأطول وتقدّم ما يدل على لعب هواة وقصّر. وتحكي كلاماً كبيراً عن الجغرافيا السياسية لكنها لا تعرف كيف تقرأ البوصلة. تحكي عن فلسطين وتذهب إلى كل الجهات ما عداها. وتحكي عن «أمّة» إسلامية ولا تعرف إلاّ الفرع المذهبي.. وتحكي عن المستضعفين وتقلّد المستكبرين المستبدين والطغاة. وتحكي عن التحرّر وجلّ طموحها أن تستعبد. وتحكي عن الشياطين ولا تفعل سوى طرد الملائكة.. تشتم بإسرائيل وتتوعّدها بالإفناء والإمحاء ولا تطلق رصاصها إلاّ باتجاه أعداء إسرائيل. تستنكر جريمة حرق طفل فلسطيني وتتجاهل أنها وحليفها في دمشق أحرقا سوريا بما فيها من بشر وحجر وشجر..
ازدواجية خطابها متفرعة من جذر ازدواجية تركيبة نظامها: بين الوضعي والمنزّل، والمدني والديني والدولة و«الثورة»، والواقع والوهم. وأغرب ما في ذلك الوضع الغريب، هو أنها ترتكب وتتجاهل، وتسبق الضحية على الأنين والشكوى. كأنها، وهي الدولة الخطيرة، تتصرف مثل طفل في منزل، رمى التلفزيون على الأرض وطبّشه ثم أخذ يضحك! سوى أنها ترمي استقرار دول وشعوب وثروات أسطورية في نار جموحها، ثم تستمر في اتهام الغير بما فعلته وادعاء البراءة من الارتكاب.
.. في الآونة الأخيرة، عدّل مذيعو بياناتها وسياساتها ومواقفها من شكل الخطاب الموجّه إلى الخليج العربي، والسعودية تحديداً.. وهطلت فجأة تصريحات وتسريبات وخبريات تتحدث عن أهمية «التقارب» الإيراني السعودي. والمصلحة المشتركة التي تفرض ذلك التقارب.. وتوقفت، أو بالأحرى تراجعت إلى حد بعيد، الحملات المسفّة على الرياض وسياستها.
كان يمكن النظر بشيء من التقدير أو الجدية إلى تلك «المستجدات» الإيرانية، لو أنها سبقت مثلاً تحرير عدن من أتباع إيران. أو «اندلاع» الحملة التركية في الداخل السوري. أو تأكد كل من عليها أن محاولة إنقاذ الأسد من السقوط الحتمي لم تصل إلى أي شيء يُعتدّ به.. أو لو أنها ترافقت وتترافق مع إجراءات ميدانية ملموسة تعكس تغييراً في الأداء كما في الكلام.
لكنها الازدواجية ذاتها، والأداء المراهق ذاته، والذي يفترض صاحبه أنه يستطيع أن يناور كلما أراد ذلك، وأن يبلف متى شاء، وأن «ذاكرة» الآخرين قصيرة!
قبل الآن بقليل، تبيّن أن إيران تهجم في المكان الضعيف وتتراجع أمام القوي. لم يقنعها أي شيء بوقف الحرب مع العراق، إلاّ تراجعها في ساحات المعارك وتعاظم خسائرها. ولم يقنعها أي شيء باستحالة مشروعها النووي إلا التأثيرات الخطيرة للعقوبات عليها.. ولم يقنعها أي شيء بلجم الانقلابيين في اليمن إلا بدء اندحار هؤلاء مع انطلاقة «عاصفة الحزم» وتوابعها.. ولن يقنعها أي شيء بتغيير موقفها من النكبة السورية إلا التحركات الميدانية الضاغطة على بقايا قوات الأسد على كل الجبهات.
أي أنها لا تستكين إلا تحت الضغط، ولا تتعقّل إلاّ تحت تأثير القوة.
.. لن يطول الوقت، قبل أن نبدأ في الاستماع إلى خطاب آخر لها عن سوريا.. يلوم الأسد على «أخطائه» ويشيد بـ«نضال» الشعب السوري ضد إسرائيل!