وحدها منظومة بطرانة مثل التي يمثلها أهل الممانعة وادعاءاتها في ديارنا، يمكنها أن تكون على ذلك القدر من الالتباس والغشيان، وتلك القدرة على تطويع المتناقضات ثم الاستمرار بالتغني بيقينياتها.
وهذه من دلالات وعلامات الانحطاط الذي لا يكاد يترك ستراً واحداً مُغطى! لا في السياسة وعادياتها وتجاراتها. ولا في الإعلام ولواجمه. ولا في الميدان ومعاركه وضحاياه! ولا في موجبات القيادة ومتطلباتها وشروطها: في ذلك، أن تُخاض حروب ضروس، وتُفتح أفران الفتن على الريح وإلى السماء! وتدمّر شعوب تامة، وأوطان قائمة، وتُحرق ثروات وطنية هائلة، وتُنزل نكبات لا تحتمل بمجموعات بشرية، فقط لأنها موسومة بالاختلاف في الرأي السياسي، أو في الدين، أو في المذهب، أو في العرق! وتُزلزل قيم طالما رُبطت بالتقديس، وتُمعس بالأرض معاني الأنسنة ومكارم الأخلاق.. وأن يجري ذلك كله، وما هو أكثر منه وأشنع وأمرّ، انطلاقاً من بيان مصلحي عابر، وسياسة آنية رعناء! أو هكذا تبيّن ويتبيّن في آخر المطاف وأول القطاف!
في أساس هذا الأداء معضلة الجموح والغلو والأنا المتطرفة والمأزومة بفكرة أنها والحق صنوان لا يفترقان. ومنها ينطلق القياس والمقياس. وتنطلق في ركابها مسيرات البؤس والخراب والبلايا والكوارث والشحتار والزفت.. والتي في ضوئها وعتمتها تُساس شؤون هذه الدنيا المنكوبة وأمورها. وتُؤخذ شعوبها ومقدراتها وثرواتها إلى حيث يركن مقام المصالح. وحيث تفرض نفسها شروط «المواجهة» والمساومة والبازار الناشف. وحيث لا يخجل أصحاب العدم من عدميتهم، ولا من شططهم ولا من إجرامهم، ولا من سوء تقديرهم، ولا من إظهارهم خفّة في القرار والأحكام والاستنتاجات لا تليق بالأغرار ولا بالقاصرين ولا بالمهرجين ولا بالمغترّين ولا بالمراهقين في العمر وأحوال الزمان، والغافلين عن بديهيات أوضح من شمس آب!
دربكت الدنيا فوق رؤوس أهلها، واستشرى بلاؤها وطال ضناها، لأن البعض في نواحينا لا يرضى ولم يرضَ بأقل من التوازي مع أنصاف الآلهة! وما يستدعيه ذلك من مرابطة عند يقينياته وخلاصاته، وعند مصالحه وأحكامه، وعند سلطاته وكليّتها، والتصدي بالتالي لمن يخالفها، بالمواجهة المفتوحة والضارية، بالنار والإمحاء والإقصاء والقتل والتهجير وتخريب الإعمار وجنى الأعمار، والبنيان وأهل البنيان.. ثم تلبيس ذلك المختلف المخالف كل أثواب الشياطين والأبالسة والأشرار والوحوش والغيلان، وما تناسل وتفرّع من وعن ذلك الجحيم التام والمكتمل كما اكتمال ارتباط هذا الوجود بتعاقب الليل والنهار!
.. ثم يبان البيان وينطق اللسان وتأخذ بالمبتلي صعقة السمع وفظاعة القول ورعونة الاستنتاج.. حيث يصير ذلك العدو الجحيمي والإبليسي موضع مناشدة! ومناصحة! ومشروع حليف ممكن في وجه «المتآمرين الأميركيين»! ويجري (بالمقلوب) إعادة استحضار اليقينيات المقدّسة باعتبارها المحرّك الدافع لكل هذا الرخاء في طلب اللقاء! بعد أن كانت هي ذاتها المحرّك الدافع لكل ذلك الرخاء في طلب الفناء والإفناء وإشهار العداء!
في ذلك، يا عزيزي، لا معنى للبلاء إن لم يكن هذا البلاء، حفراً وتنزيلاً.. والسلام!